(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩))
ثم كرر الاستفهام لزيادة الاستبعاد لثبات المشركين على العهد ، وحذف فعل الاستفهام لكونه معلوما عما قبله ، فقال (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا) أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يغلبوا (عَلَيْكُمْ) ويظفروا بكم (لا يَرْقُبُوا) أي لم ينظروا ولم يحفظوا (فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي قرابة ولا عهدا ، وقيل ال «إل» بمعنى الإله (١) ، أي لا يترقبوا الله ولا عهده (٢) قوله (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) كلام مستأنف لبيان حالهم من مخالفة الظاهر والباطن ، أي يظهرون لكم الجميل بألسنتهم كالمنافقين (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) الإيمان والطاعة ، أي ويضمرون في صدورهم الكفر والمعصية ، ولا يجوز أن يكون حالا لفساد المعنى ، لأنهم بعد أن يظفروا بكم ولا يرضونكم أصلا (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) [٨] بنقض العهد وغيره وقيد «الأكثر» ، لأن منهم من وفى به (اشْتَرَوْا) أي استبدلوا (بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا ونيل الشهوات ، وذلك : أن أبا سفيان من المشركين كان يطعم الطعام ناقضي العهد منهم ، ويعطي مالا كالناقة وغيرها ليصد بذلك الناس عن متابعة النبي عليهالسلام (٣) ، وقيل : نزلت الآية في اليهود الذين كتموا صفة النبي عليهالسلام في كتابهم بشيء من الأكلة يأخذونه من سفلتهم (٤)(فَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دين الإسلام (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [٩] من صدهم الناس عن دين الله.
(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))
ثم كرر بيان نقضهم العهد تأكيدا لعداوتهم المؤمنين بقوله (لا يَرْقُبُونَ) أي لا يحفظون (فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي قرابة ولا عهدا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [١٠] أي المجاوزون الغاية في الظلم بترك أمر الله ونقض العهد الذي بينهم وبين المؤمنين ، يعني لا تغفلوا عنهم فانهم إذا ظفروا بكم لا يرحمونكم لغاية ظلمهم وكفرهم.
(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١))
(فَإِنْ تابُوا) من الكفر وآمنوا (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم مؤمنون مثلكم (فِي الدِّينِ) فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، قال ابن عباس : «حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة» (٥)(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبين أحكام القرآن (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [١١] أنها من الله وهو حث على تأمل ما فصله من أحكام المحافظين على العهود والناقضين لها ، كأنه قال من تأمل نفصيل الآيات فهو العالم.
(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))
(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي إن نقضوا (٦) عهودهم التي أظهروها (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) بكم قبل أجله أو رجعوا عن توبتهم ومواخاتكم في الدين (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي عابوا دينكم الإسلام (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) بتحقيق الهمزتين على الأصل ، وبه مع إدخال ألف بينهما تخفيفا ، وبهمزة واحدة بعدها ياء مكسورة بكسرة خفيفة لاستثقال الهمزتين في كلمة واحدة (٧) ، جمع إمام كعماد وأعمدة ، والمراد المتمردون في الشرك الذين يقولون أن دين محمد ليس بشيء بعد علمهم أنه حق ، والأصل فقالوهم وضع (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) موضع ضميرهم إشعارا بتمردهم وطغيانهم في الكفر بسبب نكثهم العهد في حال الشرك (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) بفتح الهمزة ، أي لا
__________________
(١) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٨٣.
(٢) ولا عهده قوله ، س : ولا عهدا ، ب م.
(٣) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٥.
(٤) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٥.
(٥) انظر البغوي ، ٣ / ١٣.
(٦) أي إن نقضوا ، ب : أي نقضوا ، ب م.
(٧) «أئمة» : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ورويس بتسهيل الثانية بلا إدخال لأحد منهم ، وقرأ أبو جعفر بالتسهيل مع الإدخال ، وقرأ هشام بالتحقيق مع الإدخال وعدمه ، وقرأ الباقون بالتحقيق من غير إدخال. البدور الزاهرة ، ١٣٣ ـ ١٣٤.