عهود لهم حقيقة ، لأنهم لا يوفون بها ، وبكسر الهمزة (١) ، أي لا تصديق لهم في دينكم ، قيل : «فيه دليل على أن الذمي إذا طعن دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله» (٢) ، لأن العهد قد انعقد على أن لا يطعن فاذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة ، وبه استشهد أبو حنيفة أن يمين الكافر لا يكون يمينا لقوله (لا أَيْمانَ لَهُمْ) ، فلا يوجب الكفارة على الكافر إذا حنث ، وقال الشافعي : يكون يمينا بدليل وصفها بالنكث ، فيوجب الكفارة على الكافر إذا حنث (٣) ، وهذا الخلاف انما يظهر إذا أسلم بعد انعقاد اليمين وحنث فيه ، فالمعنى : فانهم إذا طعنوا في دينكم فقاتلوهم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) [١٢] أي لكي ينتهوا عن نقض العهد والكفر.
(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣))
ثم حث المؤمنين على قتال المشركين قبل فتح مكة بقوله (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي عهودهم قبل انقضاء أجلها (٤)(وَهَمُّوا) أي قصدوا (بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة بعد المشاورة في أمره بدار الندوة ، خطاب للذين قعدوا عن المقاتلة ، والاستفهام تقرير بانتفائها توبيخا على تركها ووهنها ، المعنى : أنكم مستقرون على ما كنتم عليه من عدم المقاتلة بعد ، فما لكم لا تقاتلونهم (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) بالقتال (أَوَّلَ مَرَّةٍ) بنقض العهد ، لأنهم بدؤا بقتال خزاعة لمعاونة بني بكر عليهم وخزاعة كانت حلفاء النبي عليهالسلام ، فكانت البداية منهم في نقض العهد ، ثم وبخهم على خوفهم من المشركين الناكثين بقوله (أَتَخْشَوْنَهُمْ) فلا تقاتلوهم (فَاللهُ أَحَقُّ) أي أحرى من غيره (أَنْ تَخْشَوْهُ) بالهيبة في ترك أمره فقاتلوا أعداءه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٣] أي مصدقين به وبوعده.
(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤))
ثم وعد لهم النصرة تشجيعا لهم عليهم بقوله (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) أي يقتلهم بسببكم ويهزمكم (وَيُخْزِهِمْ) أي ويذلهم بالأسر والقتل (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أي على قريش (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [١٤] وهم خزاعة ، طائفة من اليمن جاؤا مكة فأسلموا فلقوا أذى كثيرا من أهل مكة ، فشكوا إلى رسول الله عليهالسلام فقال ابشروا! فان الفرج قريب ، أي ويبرئ داء قلوبهم ويفرحهم بقتلهم وأسرهم.
(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))
(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) أما لقوا منهم من المكاره وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها ، فدل ذلك على صحة نبوة رسول الله وصدقه (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي على ناس من أهل مكة ، وقد أسلم كثير منهم وحسن أسلامه (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي يعلم (٥) ما سيكون كما يعلم ما كان (حَكِيمٌ) [١٥] لا يفعل إلا ما اقتضته حكمته وعلمه.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))
قوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) نزل حين أمر الله المؤمنين بقتال المشركين ، فشق ذلك على بعضهم (٦) ، فقال تعالى : أظننتم أن تتركوا على الإيمان أيها المؤمنون ولم تبتلوا بالأمر بالقتال (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بعلم (٧) التمييز في الوجود (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) من الذين لم يجاهدوا وإن كان الله عالما بعلم (٨) الغيب إياه لكنهم لم يستحقوا الثواب
__________________
(١) «لا أيمان» : قرأ ابن عامر بكسر الهمزة وبعدها ياء ساكنة مدية ، والباقون بفتح الهمزة وبعدها ياء ساكنة غير مدية. البدور الزاهرة ، ١٣٤.
(٢) هذا منقول عن الكشاف ، ٢ / ١٨٣.
(٣) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٨٣.
(٤) أجلها ، ب م : آجالها ، س.
(٥) أي يعلم ، م : يعلم ، ب س.
(٦) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨.
(٧) بعلم ، ب س : يعلم ، م.
(٨) بعلم ، ب س : يعلم ، م.