والجنة بذلك العلم ، قوله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) عطف على (جاهَدُوا) ، داخل في الصلة ، أي ولم يظهر المجاهدون منكم والمخلصون الذين لم يتخذوا من غير الله (وَلا رَسُولِهِ) أي ومن غير رسوله (وَلَا الْمُؤْمِنِينَ) أي ومن غير المؤمنين (وَلِيجَةً) أي بطانة لصيقا بهم (١) بالصداقة والتحاب يفشى به سره ، من ولج إذا دخل ، يقال لخاصة الرجل وليجة ودخيلة ، وقيل : «الوليجة كل من يتخذه الرجل معتمدا عليه من غير أهله في حفظ سره» (٢) ، والمراد الأصفياء والأولياء ، يعني ولم يتخذوا بينهم وبين أهل الكفر صفوة ومودة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [١٦] بالتاء من الجهاد والتخلف والخلوص في الدين ومودة أهل الكفر وغير ذلك من الخير والشر فحذوا منه.
(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧))
قوله (٣)(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) مفردا وجمعا (٤) ، والمراد بها الكعبة ، وجمعت لإرادة الجنس الذي يدخل فيه الكعبة أو جعل كل جزء منها مسجدا ، نزل حين أسر العباس يوم بدر وعيره المهاجرون بقتال النبي عليهالسلام وبقطيعة الرحم وأغلظوا له في القول ، فقال : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له علي : هل لكم شيء من المحاسن؟ فقال مفتخرا في إشراكه : إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونحجها ونسقي الحاج ونفك العاني ونقرئ الضيف (٥) ، فرد الله عليه بقوله (ما كانَ) ، أي ما جاز للمشركين أن يعمروا المسجد (شاهِدِينَ) حال من واو (يَعْمُرُوا) ، أي حال كونهم يشهدون (عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) بنصبهم الأصنام حول المسجد وعبادتهم إياها ، والمسجد لله وعبادته وحده (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) في الدنيا (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) [١٧] أي دائمون في الآخرة.
(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))
(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي بتوحيده ولم يذكر الإيمان برسول الله اكتفاء بذكر الإيمان بالله لما شهر أن هذا قرين ذلك لا ينفك أحدهما عن صاحبه فكأنهما (٦) شيء واحد لاشتمال كلمة الشهادة على الإيمان بهما (٧)(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالبعث يوم القيامة (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي يداوم (٨) على الصلوات الخمس مع الجماعة (٩)(وَآتَى الزَّكاةَ) أي الصدقة المفروضة عن طيب نفس (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي ولم يترك أمر الله تعالى خشية منه لا من غيره والكافر بالله ممتنع من ذلك كله ، قيل : الكافر إذا أوصي بعمارة المسجد لا يمتثل (١٠)(فَعَسى أُولئِكَ) أي فلعل أهل هذه الصفة (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [١٨] أي أهل كونهم من الراشدين لدين الله ، ولهم أجر أعمالهم عند ربهم ، وفيه حسم لإطعام المشركين في الانتفاع بأعمالهم ، وتبعيد لهم عن الاتصاف بالاهتداء ، قيل : مرويا عن الرسول عليهالسلام : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» (١١) ، وقال عليهالسلام : «من بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة» (١٢).
(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا
__________________
(١) لصيقا بهم ، ب م : لصفائهم ، س.
(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٣) منه قوله ، ب م : ـ س.
(٤) «مساجد» : قرأ المكي والبصران باسكان السين ويلزمه حذف الألف بعدها علي الإفراد ، والباقون بفتح السين وألف بعدها على الجمع. البدور الزاهرة ، ١٣٤.
(٥) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ١٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٩ ؛ والواحدي ، ٢٠٤.
(٦) فكأنهما ، س م : وكأنهما ، ب.
(٧) بهما ، ب س : ـ م.
(٨) يداوم ، ب س : بدوام ، م.
(٩) مع الجماعة ، س : مع الجماعات ، ب م.
(١٠) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ١٧.
(١١) رواه ابن ماجة ، المساجد ، ١٩ ؛ والدارمي ، الصلوة ، ٢٣ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٣ / ٦٨ ، ٧٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١٩ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٨٥.
(١٢) أخرج الترمذي نحوه ، الصلوة ، ٢٣٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١٩.