المتعبدين من النصارى (أَرْباباً) أي كالأرباب الذين يتبعهم المربوبون (مِنْ دُونِ اللهِ) لطاعتهم إياهم في معصية الله وتحريم ما حرموه وتحليل ما حللوه دون الله تعالى ، قوله (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) بالنصب عطف على (أَحْبارَهُمْ) ، أي اتخذوه ربا من دون الله (وَما أُمِرُوا) أي والحال أنهم لم يؤمروا في جميع الكتب أو لم يأمرهم عيسى (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) أي ليوحدوا (إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود غيره ، فينبغي لهم أن يعبدوه دون غيره ، ثم نزه نفسه بقوله (سُبْحانَهُ) عن ما (يُشْرِكُونَ) [٣١] أي هو منزه عن شركهم.
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢))
(يُرِيدُونَ) أي أهل الكتابين (أَنْ يُطْفِؤُا) أي يبطلوا ويغيروا (نُورَ اللهِ) أي القرآن أو دينه (بِأَفْواهِهِمْ) أي بألسنتهم تكذيبا وإشراكا (وَيَأْبَى اللهُ) فيه معنى النفي ، ولذا جاز الاستثناء بعده ، أي ولم يرد (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) أي أن يظهر القرآن والعمل به أو يتم نعمة الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [٣٢] إظهاره وإتمامه.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي بالقرآن وما فيه من التوحيد والأحكام (وَدِينِ الْحَقِّ) أي الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي دين الحق ، وهو دين محمد عليهالسلام بالبرهان (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على جميع الأديان أو بنصره محمدا وأصحابه وقهر أعدائه وقذف الرعب في قلوب الكفار أو يظهره بعد نزول عيسى ، فلا يبقى أمة إلا دخلت في دين الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [٣٣] إظهار دين الإسلام على جميع الأديان.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤))
قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) أي علماء اليهود (وَالرُّهْبانِ) أي زهاد النصارى (لَيَأْكُلُونَ) أي ليأخذون (أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بغير حق ، قيل : إنهم كانوا يأخذون الرشى في الحكم والمسامحة في الشرائع (١)(وَيَصُدُّونَ) أي يصرفون الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه ، نزل بيانا لحالهم للمسلمين لكي يمتنعوا عن مثل صنيعهم (٢) ، قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) مبتدأ ، أي يجتمعون ويدخرون (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) وخصا بالذكر لفضلهما على سائر الأموال من حيث إنهما أصل التمول وأثمان الأشياء ، ولأن ذكرهما للكنز دليل على ثبوت ما سواهما عند الكانز غالبا (وَلا يُنْفِقُونَها) أي الكنوز أو الأموال صرفا للفظ إلى المعنى أو التقدير : لا ينفقون الفضة والذهب فيكون من قبيل الاكتفاء ، يعني لا يؤدون حقها (فِي سَبِيلِ اللهِ) والخبر (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [٣٤] قيل : «كل مال تؤدي زكوته فليس بكنز وإن كان في بطن الأرض ، وكل مال لا تؤدي زكوته فهو كنز وإن كان على وجه الأرض» (٣) ، وأصل الكنز الجمع وجعل الشيء بعضه فوق بعض ، وكان الواجب في ابتداء الإسلام إخراج الفضل على قدر الحاجة منه ، ثم نسخ بآية الزكوة (٤) ، قيل : يحتمل أن يكون هذا نعت الأحبار والرهبان ليدل على اجتماع الوصفين المذمومين فيهم أخذ الرشوة وكنز المال من غير إخراج حق الله في سبيله وأن يكون المراد به المسلمين الذي لا يؤتون الزكوة ، فقرنهم مع المرتشين من اليهود والنصارى في الذكر تغليظا لحالهم ودلالة على أنهم من الفريقين في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم (٥).
(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))
__________________
(١) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٩١.
(٢) لعل المفسر اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٦.
(٣) عن ابن عمر ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٧ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤١.
(٤) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٩١.
(٥) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٢ / ١٩١.