(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))
(إِنَّمَا النَّسِيءُ) بالياء المشددة ، وأصله فعيل ، من النسأ ، وهو التأخير ، قلبت الهمزة ياء وأدغمت في الياء ، وبالمد والهمز وإسكان الياء على الأصل (١) ، أي تأخير الشهر المحرم إلى شهر آخر (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) لأن معصية الكافر تزيده كفرا.
وكان رجل كناني من العرب مطاعا في الجاهلية ، وهو وأهله (٢) كانوا أصحاب حروب وغارات ، فشق عليهم ترك المحاربة إذا جاء الشهر الحرام ، فيحلون الشهر المحرم من الأشهر الأربعة ويحرمون مكانه شهرا آخر ، فاذا أرادوا أن يغيروا قام الكناني فخطب الناس يوم منى ، وقال : إني قد أحللت لكم المحرم وحرمت صفر مكانه ، فقاتل الناس في المحرم ، وقال في العام الثاني قد أحللت صفر وحرمت المحرم (٣) ، فقال تعالى (يُضَلُّ بِهِ) معلوما ، من أضل ، أي يضل بالنسئ ، والفاعل (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الكافرون الناس الذين اتبعوهم ، ومجهولا (٤) ، أي عملهم يضلهم (يُحِلُّونَهُ) أي النسئ (عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ) أي النسئ (عاماً) المعنى : أنهم لم يحلوا شهرا للقتال من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه من الحلال (لِيُواطِؤُا) أي ليوافقوا (عِدَّةَ) أي عدد (ما حَرَّمَ اللهُ) من الأشهر الحرم ، وهي الأربعة (فَيُحِلُّوا) القتال في الأشهر الحرم بتحليلهم (ما حَرَّمَ اللهُ) فيها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين (زُيِّنَ لَهُمْ) مجهولا (سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي قبحها بتزيين الشيطان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [٣٧] أي لا يرشدهم بلطفه إلى دين الحق مجازاة لإعراضهم عن الحق وكفرهم به.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨))
قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) أي اخرجوا (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في جهاده ، والعامل في (إِذا) معنى الفعل في (ما لَكُمْ) ، ما تصنعون إذا قيل لكم أو ما دل عليه (اثَّاقَلْتُمْ) أي تثاقلتم بمعنى قعدتم ولم تخرجوا وملتم (إِلَى الْأَرْضِ) أي إلى الدنيا وشهواتها وتركتم الجهاد ، نزل حين أمر النبي عليهالسلام الخروج إلى غزوة تبوك ، وكان في أيام الصيف وشدة حر وعسرة المسلمين وكثرة العدو ، وكانوا يتثاقلون عن الخروج فعاتبهم الله (٥) ، وقال ما تصنعون إذا قيل لكم اخرجوا في الجهاد تباطأتم (أَرَضِيتُمْ) باستفهام التوبيخ (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ولذاتها (مِنَ الْآخِرَةِ) أي بدل الآخرة ونعيمها ، ثم قال لبيان عدم نسبة بين الدنيا والآخرة (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي منفعتها (فِي الْآخِرَةِ) أي بجنب منفعتها (إِلَّا قَلِيلٌ) [٣٨] أي متاع يسير عن متاع أولياء الله في الجنة.
(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))
ثم قال مهددا لهم (إِلَّا تَنْفِرُوا) أي إن لم تخرجوا إلى الغزو بعد الأمر (يُعَذِّبْكُمْ) الله (٦)(عَذاباً أَلِيماً) بحبس المطر عنكم في الدنيا وبالنار في الآخرة أو يهلككم (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) خيرا وأطوع له وللرسول منكم (وَلا تَضُرُّوهُ) أي الله أو رسوله بترك الجهاد (شَيْئاً) من ملكه بالنقص ، لأن الله وعده العصمة من الناس والنصرة
__________________
(١) «النسئ» : قرأ ورش وأبو جعفر بابدال الهمزة ياء وإدغام الياء قبلها فيها فيصير اللفظ بياء مشددة ، والباقون بالهمز والمد المتصل. البدور الزاهرة ، ١٣٥ ـ ١٣٦.
(٢) وهو وأهله ، ب م : وهو من أهلهم ، س.
(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٨ ـ ٤٩.
(٤) «يضل» قرأ حفص والأخوان وخلف بضم الياء وفتح الضاد ، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد ، والباقون بفتح الياء وكسر الضاد. البدور الزاهرة ، ١٣٦.
(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٤٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٠٧ ـ ٢٠٨.
(٦) الله ، ب س : الله في الآخرة ، م.