له ، ووعد الله كائن لا خلف فيه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٣٩] من إهلاككم والاستبدال بكم قوما غيركم.
(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي إن لا تنصروا رسوله ولم تخرجوا معه إلى غزوة تبوك (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) أي فقد ينصره كما نصره ولم يكن معه إلا رجل واحد (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كفار مكة من مكة (ثانِيَ اثْنَيْنِ) بنصب الياء ، حال من مفعول «أخرج» ، أي حال كون الرسول أحد اثنين ، وهما النبي وأبو بكر ، يعني أن الله نصرهما ولم يكن معهما غيرهما (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من (إِذْ أَخْرَجَهُ) ، والغار ثقب في جبل ثور ، قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) أي لأبي بكر بدل ثان من (إِذْ أَخْرَجَهُ).
فبعد ما دخلا في الغار نسجت على فمها العنكبوت وباضت في أسفلها حمامتان ، وذلك حين قصد أهل مكة ليقتل النبي عليهالسلام فهاجر من مكة إلى المدينة ، فجاء إلى بيت أبي بكر ، فقال : ما لك بأبي أنت وأمي؟ فقال : ما أرى قريشا إلا قاصدين بقتلي ، فقال أبو بكر : دمي دون دمك ونفسي دون نفسك ، فقال : اذن لي بالخروج ، فقال أبو بكر : إن عندي بعيرين ، فخذ أحدهما واركبه ، قال : لا آخذه إلا بالثمن ، فأخذه بالثمن ، وهي ناقته القصوى ، فركبا وأتيا إلى الغار بأسفل مكة ، وقيل : أتيا إليه بالمشي ، فمشى رسول الله ليلتئذ على أطراف أصابعه حتى حفيت ، فرأى ذلك أبو بكر ، فحمله على عاتقه وأتى به فم الغار فأنزله ، فدخله أبو بكر وفتشه فلم ير شيئا مكروها فحمله وأدخله ، وكان في الغار ثقب ، فيه حيات ، فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول الله ، فوضع قدمه على الثقب ، فجعلن يضربنه ويلسغنه وجعلت دموعه تنحدر على خده من ألمه ، فقال رسول الله لأبي بكر (١) : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) وقيل : جاء المشركون بقسيهم وعصيهم ، فأبصرهم أبو بكر وخاف على نفس رسول الله ، فقال : يا رسول الله إن تهلك يذهب هذا الدين ، فقال : ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا بالرعاية والحفظ (٢)(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي طمأنينته (عَلَيْهِ) أي على أبي بكر (وَأَيَّدَهُ) أي قوى النبي عليهالسلام (بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أيها المؤمنون ، وهم الملائكة الذين صرفوا الكفار عن رؤيتهما في الغار وفي يوم بدر ويوم حنين ويوم الأحزاب ، فهو ناصره وعاصمه من الناس في كل مخوف (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي دعوتهم الخلق إلى الكفر أو إرادة قتلهم النبي عليهالسلام (السُّفْلى) أي المنخفضة المغلوبة (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالرفع مبتدأ ، خبره (هِيَ الْعُلْيا) أي الغالبة ، وهي دعوته إلى الإيمان والإسلام أو شهادة أن لا إله إلا الله (وَاللهُ عَزِيزٌ) باطفاء كلمة المشركين وبالانتقام منهم (حَكِيمٌ) [٤٠] باعلاء كلمة الله ورفع ظلمة الشرك بنور التوحيد.
(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١))
ثم أكد أمر القتال بقوله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أي اخرجوا في سبيل الله صحاحا ومراضا أو شبانا وشيوخا أو ركبانا ومشاة أو خفافا من السلاح وثقالا منه أو فقراء وأغنياء ، يعني لا تهنوا عن الغزو (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في دينه وطاعته (ذلِكُمْ) أي الجهاد في سبيله (خَيْرٌ لَكُمْ) من تركه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٤١] أي تصدقون بأن للخروج إليه ثوابا وللجلوس عنه عقابا ، قيل : نسخت هذه الآية بقوله (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ)(٣) الآية (٤) ، وقيل : لم ينسخ (٥) ، لأنه إذا وقع النفير عاما يكون فرضا عما ، وإذا لم يقع عاما فبخروج البعض سقط عن الباقين.
__________________
(١) اختصره المصنف من السمرقندي ، ٢ / ٥٠ ـ ٥١.
(٢) أخرج البخاري نحوه ، فضائل الأصحاب ، ٢ ؛ ومسلم ، الزهد ، ٧٥ ؛ وأحمد بن حنبل ، ١ / ٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٩٤.
(٣) التوبة (٩) ، ٩١.
(٤) عن السدي ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٥٢ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٥٢.
(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٥٢.