(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦))
(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) أي منعوا حق الله منه (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عما عاهدوا (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [٧٦] عن الوفاء بما قالوا.
(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧))
(فَأَعْقَبَهُمْ) أي وأورثهم البخل أو جعل الله البخل في عاقبتهم (نِفاقاً) ثابتا (فِي قُلُوبِهِمْ) فلا يؤمنون (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) وهو يوم القيامة (بِما أَخْلَفُوا اللهَ) أي بخلفهم (ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [٧٧] في حلفهم بأنهم يتصقون ، قال عليهالسلام : «آية المنافق ثلاثة ، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» (١) ، وفي رواية «وإذا عاهد غدر» (٢) ، وقد ذكر الثلاثة في هذه الآية.
وقيل : نزلت الآية في شأن ثعلبة بن خاطب حين جاء إلى رسول الله ، فقال ادع الله لي أن يرزقني مالا ، فقال : ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، ثم قال : يا رسول الله! ادع لي أن يرزقني مالا فو الله لئن آتاني الله مالا لأؤدين كل ذي حق حقه ، فقال : اللهم ارزق ثعلبة مالا ، فاتخذ غنما فنمت كما ينمي الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقيل :
كثر ماله حتى لا يسعه واد ، فقال : يا ويح ثعلبة ، أي يا هلاكا له ، فبعث رسول الله مصدقين لأخذ الصدقات ، فقال : ما هذه إلا جزية وقال ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا إلى المدينة قال لهما رسول الله عليهالسلام قبل أن يكلماه يا ويح ثعلبة مرتين فنزلت ، فجاء ثعلبة بالصدقة فقال إن الله منعني أن أقبل منك ، فجعل التراب على رأسه ، فقال عليهالسلام : هذا عملك قد أمرتك فلم تعطني ، فقبض رسول الله ، فجاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها وجاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمان (٣).
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))
قوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا) استفهام لتقرير عناد المنافقين يتعلق بقوله (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) ، أي ألم يعرفوا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) وهو ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه (وَنَجْواهُمْ) وهو ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين والفتك بالنبي عليهالسلام حين هموا به على العقبة ، وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها عن مستحقيها (٤)(وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [٧٨] أي يعلم سر كل شيء وما يضمرونه في قلوبهم.
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩))
قوله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) جاز أن ينصب ويرفع على الذم ، أي هم الذين يعيبون (الْمُطَّوِّعِينَ) أي المتبرعين (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) يتعلق ب (يَلْمِزُونَ) ، والمراد عبد الرحمن بن عوف ، جاء إلى النبي عليهالسلام بأربعة آلاف درهم صدقة حين حث الناس على التصدق عند الخروج إلى غزوة تبوك (وَالَّذِينَ) أي ويعيبون الذين (لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي قدرتهم الجهد بالضم الطاقة ، وبالفتح المشقة ، قيل : جاء ابن قيس بصاع من تمر وجاء عاصم بن عدي بسبعين وساقا من تمر ، فجاء كل واحد منهم بمقدار طاقته ، وكان نفر من المنافقين جلوسا (٥)(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي من المؤمنين ، قوله (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) خبر غير دعاء ، أي جازاهم بجزاء سخريتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٧٩] أي مؤلم لا ينقطع لعدم رجوعهم عن سوء فعلهم.
__________________
(١) أخرجه البخاري ، الشهادات ، ٢٨ ؛ ومسلم ، الإيمان ، ١٠٧ ، ١٠٨ ؛ وانظر أيضا اللبغوي ، ٣ / ٨٧.
(٢) رواه مسلم ، الإيمان ، ١٠٦.
(٣) عن أبي أمامة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٦٣ ؛ والواحدي ، ٢١٣ ـ ٢١٥.
(٤) مستحقيها ، س م : مستحقها ، ب.
(٥) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٦٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٨٧ ـ ٨٨