(مِنْ بَعْدِ ما كادَ) فاعله ضمير الشأن ، أي قرب الشأن (يَزِيغُ) بالياء والتاء (١) ، أي من أن تميل (قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي من الذين اتبعوه في تلك الغزوة (٢) إلى التخلف (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي تجاوز عنهم بتوبتهم وكرر تاب لتأكيد التوبة عليهم (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [١١٧] تعليل للتوبة معنى ، أي تاب عليهم لغاية رأفته ورحمته بهم.
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي لقد تاب الله على الثلاثة الذين خلفهم الشيطان عن الغازين بالمدينة ، وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع قعدوا في المدينة عن غزوة تبوك (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي برحبها ، يعني مع سعتها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي قلوبهم لا يسعها أنس بشيء ولا يلحقها سرور ما لتأخير (٣) توبتهم ، لأن النبي عليهالسلام أخر توبتهم حتى نزلت بعد خمسين يوما من انصرافه من تبوك (٤)(وَظَنُّوا) أي وأيقنوا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) أي لا مفر ولا منجأ من عذابه (إِلَّا إِلَيْهِ) أي إلى الله بالتوبة والاستغفار (ثُمَّ تابَ) الله (عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي أكرمهم بتوفيق التوبة لكي يرجعوا عن فعلهم السوء مرة بعد مرة ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن وقعت منهم خطيئة علما منهم أن الله يقبل توبة من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة أو ليتوب الناس بعدهم ويقتدوا بهم (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) يقبل التوبة من التائب (الرَّحِيمُ) [١١٨] يرحمه بعد التوبة بالمغفرة ودخول الجنة.
قال كعب بن مالك لما رجع النبي عليهالسلام من غزوة تبوك إلى المدينة : جئت إليه وسلمت عليه ، فرد علي كالمغضب فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلة أمرنا النبي عليهالسلام أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بناداء من ذروة شلع اسم الشجرة ، أبشر يا كعب فخررت ساجدا وكنت كما وصفني ربي في كلامه فانطلقت إلى رسول الله في المسجد وحوله المسلمون ، فقال أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ، ثم تلا علينا الآية سئل عن أبي بكر الوراق ما التوبة النصوح؟ فقال : أن يضيق على التائب الأرض بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))
ثم خاطب المنافقين توبيخا لهم بنفاقهم بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) باللسان واعتذروا بالكذب (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [١١٩] أي الذين صدقوا في إيمانهم وصدقوا الله نية وقولا وعملا ، وهم الثلثة الذين صدقوا في إيمانهم وتوبتهم ، وقيل : «هم المهاجرون والأنصار الذين صلوا إلى القبلتين» (٥) ، وقيل : هم الخلفاء الراشدون (٦) ، وقيل : «خطاب لمن أسلم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى» (٧) ، قيل : «لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له ، دل عليه قوله (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(٨).
(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠))
قوله (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) نزل في المنافقين الذين يتثاقلون عن الخروج إلى الغزو
__________________
(١) «يزيغ» : قرأ حفص وحمزة بالياء علي التذكير والباقون بالتاء علي التأنيث. البدور الزاهرة ، ١٤١.
(٢) الغزوة ، ب س : الغزو ، م.
(٣) سرور ما لتأخير ، ب س : سرور بتأخير ، م.
(٤) بالتوبة والاستغفار ، + س
(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٨١.
(٦) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ١٢٥.
(٧) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٢ / ٢١٨.
(٨) عن ابن مسعود ، انظر البغوي ، ٣ / ١٢٥ ـ ١٢٦ ؛ والكشاف ، ٢ / ٢١٨.