مع رسول الله عليهالسلام (١) ، وهو في معنى النهي عن التخلف ، أي لا يكن لأهل المدينة والذين حول المدينة (أَنْ يَتَخَلَّفُوا) في الجهاد (عَنْ رَسُولِ اللهِ) وأن يكونوا أبر وأشفق بأنفسهم من نفس محمد عليهالسلام وأن يتركوا محبته ، بل ينبغي أن يلقوا أنفسهم في الشدائد كما يلقي نفسه علما منهم بأن نفسه أعز نفس عند الله ، فاذا تعرضت للخوض في شدة مع كرامتها وعزتها عنده وجب على سائر النفوس أن تتهافت فيما تعرضت نفسه (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي لا يختاروا بقاء أنفسهم على بقاء نفسه في الشدائد ، بل يتبعوه حيث ما يريد (ذلِكَ) أي النهي عن التخلف (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أي عطش (وَلا نَصَبٌ) أي ولا تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي جوع (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) أي لا يدوسون (٢) أرضا من أراضي الكفار من سهل أو جبل (يَغِيظُ) أي يحزن (الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ) أي ولا يصيبون (مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أي مصيبة من قتل أو غارة أو هزيمة (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ) أي بكل واحد منها (عَمَلٌ صالِحٌ) أي ثوابه (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [١٢٠] أي لا يبطل ثواب المجاهدين بالإخلاص ، فيه دليل على أن ما أصاب الرجل في دين الله من الشدة يكتب له بذلك أجر ، وبه استدل أبو حنيفة على أن المدد القادم بعد انقضاء المحاربة يشارك الجيش في الغنيمة (٣) ، لأن وطء ديارهم يغيظهم ، وعند الشافعي لا يشاركهم فيها إلا بالحرب (٤).
(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))
ثم قال (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) كتمرة ولقمة وعلاقة سوط في الجهاد (وَلا كَبِيرَةً) كما أنفق عثمان رضي الله من الجمال المجهزة وكانت ثلثمائة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) من الأودية بالدواب والمشي في طريق الغزو ومقبلين أو مدبرين (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ثواب ذلك (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) يوم القيامة (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [١٢١] لأنه يعطي بحسنة واحدة عشرة إلى سبعمائة وإلى ما لا يدرك حسابه.
(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))
قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) نزل حين وبخهم الله على ترك النفير إلى الجهاد ، فاذا أرسل الرسول عليهالسلام سرية إلى الغزو نفروا جميعا وتركوا الرسول عليهالسلام وحده بالمدينة (٥) ، فقال تعالى لا ينبغي للمؤمنين أن ينفروا جميعا ، فاللام زائدة لتأكيد نفي النفير بأسرهم ، و «ينفروا» خبر (كانَ) المنفي ، وإذا كان نفير الكل عن أوطانهم غير ممكن لأجل النبي عليهالسلام (فَلَوْ لا نَفَرَ) أي فهلا خرج (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) أي من كل جماعة (٦) كثيرة (مِنْهُمْ) أي من المؤمنين (طائِفَةٌ) أي جماعة يسيرة إلى الغزو في دين الله ويقيم مع النبي طائفة أخرى منهم (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أي ليتعلموا (٧) الشرائع والأحكام في دين الله من النبي عليهالسلام (وَلِيُنْذِرُوا) أي وليخوفوا ويعظوا (قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا) أي إذا رجع السرايا من الغزو (إِلَيْهِمْ) أي إلى الطائفة القاعدة الذين تعلموا القرآن النازل على النبي بعدهم ، فيعلمونهم إياه ويقولون إن الله أنزل على نبينا بعدكم كذا وكذا (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [١٢٢] أي يتعظون بما أمروا به ونهوا عنه ، ويخافون عقاب الله فيعملون به لا بخلافه ، وفيه دليل على أن أخبار الآحاد مقبولة يجب العمل بها ، لأن لفظ «الطائفة» يتناول الواحد فما فوقه ، وقيل : نزلت الآية تحريضا للمؤمنين أن ينفروا عن أوطانهم لطلب العلم النافع بصدق نية وغرض صحيح (٨) ، وهو إنذار قومهم
__________________
(١) لعل المصنف اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٨١.
(٢) أي لا يدوسون ، ب س : أي لا يدرسون ، م.
(٣) في الغنيمة ، ب س : في القسمة ، م.
(٤) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ٢١٩.
(٥) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٨٢٢ ؛ والواحدي ، ٢٢٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ١٢٨.
(٦) أي من كل جماعة ، س : أي جماعة ، ب م.
(٧) ليتعلموا ، ب س : ليعلموا ، م.
(٨) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ١٢٩.