معكم (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي سترة بمعنى خفيا مبهما ، يعني لا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم ولكن مكشوفا مشهورا تجاهرونني (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أي امضوا ما في أنفسكم من السر واعلموه (وَلا تُنْظِرُونِ) [٧١] أي ولا تمهلوني في قصد إهلاكي بكل طريق منكم ، وهذا قول على طريق التعجيز وإظهار قلة المبالاة وثقته على ما وعده ربه بنصرته عليهم ، فأخبر الله تعالى عن نوح أنه كان واثقا بنصر الله غير خائف من كيد قومه علما منه بأنهم وآلهتهم ليس إليهم نفع ولا ضر إلا أن يشاء الله تعالى.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢))
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن نصحي وقبول قولي والإيمان بالله (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) بذلك في الدنيا فما يضرني إعراضكم (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ) في الآخرة (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [٧٢] أي المستسلمين لأمر الله الذين لا يأخذون للوعظ (١) والنصيحة وتعليم الدين أجرا ، فان مقتضى الإسلام ذلك ، قال عليهالسلام : «لا تأخذوا للعلم والقرآن ثمنا فيسبقكم الدناة إلى الجنة» (٢).
(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))
(فَكَذَّبُوهُ) أي نوحا في خبر نزول العذاب بهم وهو الطوفان بالماء ، واستمروا على تكذيبه (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) من المؤمنين (فِي الْفُلْكِ) من العذاب النازل بهم (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) أي جعلنا الذين معه في الفلك سكان الأرض خلفاء عن الهالكين بالعذاب (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا الواضحة على صدقه وتوحيدنا (٣)(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) [٧٣] أي عاقبة أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا ، وفيه تعظيم لما جرى عليهم وتحذير للمشركين الذين أنذرهم النبي عليهالسلام عن مثله ، وتسلية له.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))
ثم عقب خبر نوح بأخبار رسل جاؤا بعده على أممهم بالبينات فلم يؤمنوا فأهلكوا تحذيرا بها أهل مكة ليؤمنوا فقال (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد (٤) نوح وإهلاك قوم (رُسُلاً) كابراهيم وهود ولوط وشعيب عليهمالسلام (إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والموضحة المثبتة (فَما كانُوا) أي قومهم (لِيُؤْمِنُوا) بعد ما دعاهم الرسل (بِما كَذَّبُوا بِهِ) أي بمثل ما كذب قوم نوح به من الحق نوحا قبلهم أو بما كذب قوم الرسل به (٥)(مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يأتيهم الرسل ، يعني أنهم كانوا جاهلين مكذبين بالحق قبل بعثة الرسل ، ثم كذبوا بالحق بعد بعثة الرسل إليهم فلا تفترق حالتاهم في التكذيب ، فكفار مكة كهؤلاء المكذبين فصاروا كان لم يبعث إليهم أحد من الرسل لقساوة قلوبهم وشدة إصرارهم على الكفر (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الختم على قلوبهم (نَطْبَعُ) أي نختم (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) [٧٤] أي المتجاوزين من الحق إلى الباطل.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥))
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد الرسل (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي أشراف قومه (بِآياتِنا) أي بعلاماتنا التسع (فَاسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا عن الإيمان بالجراءة على ردها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) [٧٥] أي صاروا ذوي آثام عظام.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦))
__________________
(١) للوعظ ، س م : للوعد ، ب.
(٢) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.
(٣) توحيدنا ، ب م : توحده ، س.
(٤) أي من بعد ، س : أي بعد ، ب م.
(٥) قبلهم أو بما كذب قوم الرسل به ، ب س : ـ م.