بعد ما عقمت النساء أربعين سنة وأدرك الصغائر على دين آبائهم وماتت البهائم بآجالهم.
(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))
ثم أهلكوا بالطوفان فأخبر الله تعالى إيماء إلى قدرته بقوله (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي ادخلي الماء الذي خرج منك فيك (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي أمسكي عن إنزال المطر وكانت قبل ذلك لا تقلع (وَغِيضَ الْماءُ) أي انتقص ، من غاض إذا نقص وهو متعد ولازم (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من إغراق الكفار ومن إنجاء المؤمنين (وَاسْتَوَتْ) أي استقرت السفينة (عَلَى الْجُودِيِّ) وهو جبل بأرض الجزيرة بقرب الموصل (وَقِيلَ بُعْداً) أي هلاكا ، من بعد بعدا وبعدا (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [٤٤] أي الكافرين المكذبين برسل الله من رحمة الله ، عن قتادة : «كانت السفينة في الماء خمسين ومائة يوم واستقرت بهم على الجودي شهرا وهبط بهم يوم عاشوراء» (١) ، فصام نوح عليهالسلام يوم الهبوط وأمر من معه من المؤمنين فصاموا شكرا لله تعالى (٢).
وروي : أن نوحا بعث الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع ، فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجلها بالطين ، فعلم نوح أن الماء قد نبض فدعا على الغراب بالخوف ، ولذا لا يألف البيوت ودعا للحمامة بالأمان فمن ثم تألف البيوت (٣).
وروي : أنه ما نجا من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق ، وكان سبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله ، فحمله عوج إليه من الشام فأنجاه الله من الغرق (٤).
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥))
(وَنادى) أي أراد الدعاء (نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ) بالفاء ولو قصد النداء نفسه لقال «قال» بغير فاء استئنافا (رَبِّ إِنَّ ابْنِي) كنعان (مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ولا خلف في وعدك (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [٤٥] أي أعلمهم وأعدلهم ، لأن حكمك بالعدل تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك لحكمة تعلمها ونحن لا نعلمها.
(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦))
(قالَ) الله (يا نُوحُ إِنَّهُ) أي إن ابنك (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذين وعدتك أن أنجيهم (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) قرئ بكسر الميم وفتح اللام ونصب «غير» ، أي عمل عمل المشركين دون عمل المؤمنين ، وبفتح الميم ورفع اللام وتنوينه ورفع «غير» (٥) ، أي ذو عمل غير صالح أو جعلت ذاته عملا غير صالح مبالغة في ذمه ، وهو تعليل لانتفاء كونه من أهله ، وقيل : الضمير في (إِنَّهُ) لنداء نوح عليهالسلام (٦) ، أي إن السؤال إياي أن أنجيه عمل غير صالح ، لأنه التماس غير صواب ، وأنت تعلمه وليس بشيء ، وإنما لم يقل عمل فاسق ليؤذن أن النجاة بسبب الصلاح فقط (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تلتمس مني شيئا حتى تقف على كنهه بالصواب أو بغير الصواب ، وذكر السؤال يدل على أن النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه ، وإنما سمي دعاؤه سؤالا مع أنه لا سؤال فيه ، لأنه دعاءه قد تضمن معنى السؤال لذكره الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق ،
__________________
(١) انظر الكشاف ، ٣ / ٤٠.
(٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢١٣ ـ ٢١٤ ؛ أو الكشاف ، ٣ / ٤٠.
(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ١٢٨.
(٤) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٢١٤.
(٥) «عمل غير» : قرأ الكسائي ويعقوب بكسر الميم وفتح اللام وحذف تنوينها ونصب راء «غير» ، والباقون بفتح الميم ورفع اللام وتنوينها ورفع راء «غير». البدور الزاهرة ، ١٥٥.
(٦) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٤١.