قرئ بفتح اللام وتشديد النون مكسورة تأكيدا إرادة الإضافة وبفتح النون أيضا مشددة وبإسكان اللام وكسر النون مخففا (١) ، ثم أكده بقوله (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [٤٦] أي أمنعك من أن تسأل ما لا تعرف كنهه جهلا وغباوة فتعد من الجاهلين بسؤال نجاة الكافرين أو بدعائك إهلاك الكفار ثم بسؤال نجاة كافر منهم ، وإنما عاتبه ونسبه إلى الجهل مع أنه وعده أن ينجي أهله ولم يكن عالما بكفر ابنه ، لما (٢) رأى أن ابنه قد شارف الغرق (٣) اشتبه (٤) عليه الأمر فاقتضى المقام أن يسأل الإماطة الشبهة ، لأن تقديم الوعد له بانجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم كان مستوجبا أن يعتقد أن في جملة أهله من ليس بناج لكونه غير صالح بلا شبهة ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب عليه أن لا يشتبه ، والأكثر أنه كان ابن نوح من صلبه لقوله (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ، وقوله (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) بمعنى من أهل دينك ، قال ابن عباس : «ما بغت امرأة نبي قط» (٥) ، ولما كان نداء نوح ربه متضمنا بمعنى السؤال.
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) بعد اليوم (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) يعني اغفر لي واحفظني من سؤال ذلك حتى لا أعود إليه وإلى أمثاله (وَإِلَّا) أي إن لم (تَغْفِرْ لِي) ما فرط مني من ذلك (وَ) لم (تَرْحَمْنِي) بالتوبة (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [٤٧] أعمالا ، قيل : هذه عادة الصالحين أنهم إذا وعظوا اتعظوا وإذا نبهوا للخطأ استغفروا وتعوذوا (٦) ، وإنما حكى الله تعالى ما صدر من الأنبياء من التعوذ والاستغفار بعدهم ليقتدي بهم في ذلك من غير قنوط عن رحمته.
(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨))
قوله (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) خطاب لنوح عليهالسلام بالهبوط من السفينة بعد ما استوت على الجودي ، أي أنزل من السفينة مسلما محفوظا من الغرق من جهتنا (وَبَرَكاتٍ) أي بخيرات نامية وسعادات كاملة (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) مؤمنين (٧) في السفينة ، لأنهم كانوا أمما مختلفة بكثرة التوالد والتناسل و «من» للبيان ، فالسلام والبركة مختصة بمن كان معه ، ويجوز أن يكون «من» ابتدائية بمعنى وعلى أمم ناشئة ممن معك ، فيعم السّلام جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، قوله (وَأُمَمٌ) مبتدأ ، صفته (سَنُمَتِّعُهُمْ) خبره محذوف ، وهو ممن معك بتقدير التقديم على أمم (٨) ، يعني ينشأ من الذين معك أمم يتمتعون (٩) بالدنيا كافرون (١٠)(ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) [٤٨] في الآخرة ، فدخل في التمتع والعذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، قيل : مات الأمم الذين كانوا معه في السفينة ولم يكن منهم نسل إلا من أولاد نوح سام وهو أبو العرب وأشراف الناس ، وحام وهو أبو السودان والزنج ونوبة ، ويافث وهو أبو الترك والخوز ويأجوج ومأجوج (١١) لقوله تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ
__________________
(١) «فلا تسألن» : قرأ قالون والشامي بفتح اللام وتشديد النون مكسورة وحذف الياء في الحالين وورش وأبو جعفر كذلك إلا أنهما يثبتان الياء وصلا فقط ، وابن كثير بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وأبو عمرو ويعقوب باسكان اللام وتخفيف النون مكسورة وإثبات الياء بعدها وصلا لأبي عمرو وفي الحالين ليعقوب ، والباقون كذلك لكنهم حذفوا الياء في الحالين وإذا وقف عليه حمزة فبالنقل فقط. البدور الزاهرة ، ١٥٥.
(٢) ولم يكن عالما بكفر ابنه لما ، ب : ولم يعلم أن ابنه كافرا ولما ، س ، ـ م.
(٣) قد شارف الغرق ، ب م : شارف ، س.
(٤) اشتبه ، س : فاشتبه ، ب م.
(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٢١٥.
(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٧) مؤمنين ، ب س : ـ م.
(٨) بتقدير التقديم على أمم ، ب س : ـ م.
(٩) يتمتعون ، ب س : تتمتعون ، م.
(١٠) كافرون ، ب س : ـ م.
(١١) راجع في هذا الموضوع إلى تفسير قوله «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ...» ، رقم الآية (٩٤) من سورة الكهف.