من عادة إبراهيم وقومه أنه إذا أكل الضيف من طعامهم أمنوا منه ، فلما لم يأكلوا منه خاف أن يريدوا به سوء ولم يعرفهم (وَأَوْجَسَ) أي أضمر في قلبه (مِنْهُمْ خِيفَةً) أي خوفا ظهر أثره عليه أو عرفوه بتعريف الله إياهم (قالُوا) أي الملائكة (لا تَخَفْ) يا إبراهيم (إِنَّا) ملائكة (أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [٧٠] أي لإهلاكهم ، وقيل : علم إبراهيم أنهم ملائكة ولكنه خاف أن يكونوا جائين بعذاب قومه فردوا عليه ذلك (١).
(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١))
(وَامْرَأَتُهُ) أي سارة بنت هاران عمه (قائِمَةٌ) خلف الستر تسمع كلامهم أو قائمة تخدمهم وإبراهيم جالس معهم (فَضَحِكَتْ) سرورا بزوال الخوف عنها وعن إبراهيم بقولهم لا تخف أو تعجبا من عدم أكلهم وهم أضياف ، وقيل : بمعنى حاضت من قولهم ضحكت الأرنب إذا حضت (٢)(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ) أي وبعده (يَعْقُوبَ) [٧١] أي بيعقوب ، عطف على «باسحق» عند من قرأه بنصب الباء أو هو مبتدأ ، خبره الظرف قبله عن من قرأه مرفوعا (٣) ، كأنه قيل ومن وراء إسحق يعقوب موجود أو مولود وهو ولد الولد.
(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢))
(قالَتْ يا وَيْلَتى) كلمة نداء ندبة ، يقال عند ورود أمر عظيم ، أي يا ويلتي ، فألفه مبدلة من ياء الإضافة بمعنى يا عجبا (٤)(أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) أي عقيم لم ألد قط وقد كبرت في السن (وَهذا بَعْلِي) أي زوجي مبتدأ وخبر ، ومحل الجملة حال بما دل عليه «ذا» من معنى الإشارة كأنها أشارت إلى المعروف عندهم بقولها (هذا بَعْلِي) ثم قالت (شَيْخاً) تعني أشير إليه في حال كبره ولو لم يقدر كونه معروفا عندهم للزم أن يكون إبراهيم بعلها مدة شيخوخته ولم يكن بعلها في مدة شيبته ، ومثله قولك هذا زيد قائما فانك إن أخبرت به من يعرفه استقام المعنى ، وإن أخبرت من لا يعرفه لم يستقم ، لأنه يفهم أنه زيد مادام قائما ، فاذا زال القيام لم يكن زيدا ، قيل : «بشرت سارة بالولد وهي بنت ثمان وتسعين سنة ، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة أكبر منها بسنة (٥) ، وقيل : «كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة وسارة بنت تسعة وتسعين سنة» (٦) ، فأنكرت ذلك عادة ، وقالت (إِنَّ هذا) أي حدوث الولد من الكبيرين (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [٧٢] أي لأمر مستبعد غريب من حيث العادة.
(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))
(قالُوا) أي الملائكة إنكارا عليها وهي من أهل بيت النبوة (أَتَعْجَبِينَ) يا سارة كسائر النساء (مِنْ أَمْرِ اللهِ) بايجاد الولد من كبيرين ، يعني لا تعجبين من أمره ذلك (رَحْمَةِ اللهِ) أي نعمته ونبوته (وَبَرَكاتُهُ) أي وزيادات خيره تحلان (٧)(عَلَيْكُمْ) يا (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي بيت النبوة ، يعني ألا تعلمين أن نبوة الوحي (٨) من الله ، وأكثر الأنبياء من الأسباط وهم من هذا البيت ، يعني من ولد إبراهيم ، روي : «أن جبريل أخذ عودا من الأرض يابسا فدلكه بين أصبعيه فاذا هو شجرة تهتز فعرفت أنه من الله» (٩) ، ثم قال (إِنَّهُ) أي الله (حَمِيدٌ) أي محمود في فعاله (مَجِيدٌ) [٧٣] أي واسع الكرم كثير الإحسان.
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤))
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أي الخوف (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) باسحق ويعقوب حال بتقدير «قد» ، وجواب «لما» محذوف ، أي أقبل علينا (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [٧٤] أي في شأنهم ، حال أقيم مقام الجواب ، أي
__________________
(١) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ٤٦.
(٢) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ١٣٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٢٥.
(٣) «يعقوب» : قرأ حفص وحمزة وابن عامر بنصب الباء ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ١٥٧.
(٤) يا عجبا ، س م : يا عجباء ، ب.
(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٥.
(٦) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٥.
(٧) تحلان ب س : تخلان ، م.
(٨) أن نبوة الوحي ، ب م : أن بيت النبوة الوحي ، س.
(٩) عن السدي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٥.