ثم أمروا بالإيفاء الحسن في العقل ترغيبا فيه بقوله (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي أتموهما بالعدل والتسوية من غير زيادة ونقصان ، وفي ورود الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول بعد النهي عن النقصان زيادة ترغيب فيه وبعث (١) عليه (٢) ، ثم أكد بقوله (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوا حقوقهم ولو بشيء قليل كالتطفيف (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [٨٥] أي لا تسعوا فيها بشدة الفساد قاصدين بنقص حقوق الناس على وجه السرقة والغارة وغيرهما.
(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))
(بَقِيَّتُ اللهِ) أي ما يبقى لكم من الحلال بعد ترك الحرام أو طاعة الله تعالى وعطاؤه (خَيْرٌ لَكُمْ) من التطفيف في البيع والشرى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين فيما أقول لكم (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [٨٦] أي بوكيل أحفظ أعمالكم عليكم وأجازيكم عليها وإنما علي البلاغ والتنبيه على الخير وإنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم وكان شعيب عليهالسلام كثير الصلوة وكان قومه إذا رأوه يصلي تضاحكوا واستهزؤا به ولذلك قالوا طنزا وسخرية.
(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧))
(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ) مفردا وجمعا (٣)(تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام فجعلوا صلوته آمرة على سبيل التهكم بصلوته ، وعطف (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) على (ما يَعْبُدُ) ، أي أو تأمرك أن نترك أن نفعل (٤)(فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) من الزيادة والنقصان ، وقيل : كانوا يقطعون الدنانير والدراهم وحكم عليهم بأنه حرام لينتهوا عن ذلك (٥) ، ثم قالوا على سبيل المبالغة في الاستهزاء (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [٨٧] أي السفيه الضال ، والعرب تصف الشيء بضده مدحا أو ذما أو تفألا كما تقول للمخنث شجاع وللأسود كافور وللزيغ سليم ، وقيل : هو حقيقة (٦) ، أي إنك يا شعيب حليم رشيد فينا لا تكن سفيها (٧) في مخالفة دين قومك ولا تهدمه.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨))
(قالَ) شعيب (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) أي على دين بالحق وبيان على بصيرة (مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) أي نبوة وعلما من لدنه أو حلالا طيبا ، وكان شعيب كثير المال ، وجواب الشرط محذوف للعلم به من معنى الكلام وهو اتبع الضلال مثلكم وأشوب الحلال بالحرام كما تشوبون ولا آمركم بترك الشرك والمعاصي كالأنبياء (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ) أي إلى الذي أمنعكم (عَنْهُ) وأرتكبه أنا وليس بواعظ من يعظ الناس بلسانه دون عمله (إِنْ أُرِيدُ) أي ما أقصد بوعظكم (إِلَّا الْإِصْلاحَ) أي إلا إصلاحكم وبيان ما فيه مصلحة لكم وهو العدل (مَا اسْتَطَعْتُ) في محل النصب على الظرف ، أي مدة استطاعتي (وَما تَوْفِيقِي) أي وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما أعمل وأدع (إِلَّا بِاللهِ) أي إلا بتأييده وإعانته ، وفي ضمنه تهديد للكفار وقطع لأطماعهم فيه ، لأنه طلب من الله في إمضاء أمره التأييد (٨) والإظهار على عدوه ، وأصل التوفيق تسهيل سبيل الخير والطاعة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي أعتمدت (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [٨٨] أي أرجع في جميع أموري والنوائب النازلة علي.
__________________
(١) وبعث عليه ، ب : وحث عليه ، م.
(٢) وفي ورود الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول بعد النهي عن النقصان زيادة ترغيب فيه وبعث عليه ، ب م : ـ س.
(٣) «أصلوتك» : قرأ حفص والأخوان وخلف بالإفراد ، والباقون بالجمع. البدور الزاهرة ، ١٥٨.
(٤) أن نفعل ، ب س : أن لا يفعل ، م.
(٥) اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٣٥.
(٦) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٣٥.
(٧) سفيها ، س : ـ ب م.
(٨) التأييد ، س م : التأبيد ، ب ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٥١.