بعد ذلك فقال (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أينا الجاني على نفسه والمخطئ بفعله (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ) من الله (يُخْزِيهِ) أي يذله ويهلكه (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) على الحقيقة لا بزعمكم ، والأصل أن يقول ومن هو صادق ، وإنما قال ذلك تجهيلا لهم ، لأنهم كانوا يدعونه كاذبا ، أي ويخزي الكاذب على الله بأن له شريكا ، ف (مَنْ) عطف على الضمير المفعول (١)(وَارْتَقِبُوا) أي انتظروا بي العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) [٩٣] بمعنى الراقب ، أي منتظر بكم العذاب ونزوله في الدنيا.
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤))
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا بالله وعصوا أمره (الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبريل ، فخرجت أرواحهم من أبدانهم (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [٩٤] أي ميتين في أمكنتهم لا يتحركون.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأن لم يقيموا في الأرض ولم يعمروا متصرفين فيها (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) من رحمة الله (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) [٩٥] من رحمته ، والبعد ضد القرب ، وقيل : معناه ألا هلاكا لمدين كهلاك ثمود (٢) ، قيل : «لم يعذب أمتان بعذاب واحد إلا قوم صالح وشعيب ، صاح بهم جبريل فأهلكهم الله تعالى» (٣).
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧))
ثم قال لزيادة تذكير وتهديد لكفار مكة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بعلاماتنا التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) [٩٦] أي بحجة بينة (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي إلى أشراف قومه (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي أطاعوا قوله حين قال : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى)(٤) فأطاعوه في ذلك ، وتركوا أمر موسي (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ) أي قوله (بِرَشِيدٍ) [٩٧] أي بصواب ، بل هو ضلال ظاهر لمن له عقل ، وهو تجهيل لمتبعيه.
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨))
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي يتقدمهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهم خلفه كما كانوا يتبعونه في الدنيا (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي أدخلهم فيها أورده بلفظ الماضي لا بلفظ المستقبل المطابق قوله (يَقْدُمُ) ليدل على أنه مقطوع به ، كأنه قال : يقدمهم فيوردهم النار لا محالة (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [٩٨] أي الدخول المحضور النار ، وهي المخصوص بالذم ، حذف للعلم به ، من وردت الماء أي حضرته ، جعل الورد عين النار مبالغة في التهويل ، يعني بئس المورود النار ، لأن الورد انما يراد لتسكين العطش وتبريد الكبد ، والنار ضده.
(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))
(وَأُتْبِعُوا) أي ألحقوا (فِي هذِهِ) الدنيا (لَعْنَةً) وهي الغرق (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) لعنة أخرى ، وهي عذاب النار ، يعني لعنوا في الدارين (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [٩٩] أي العون المعان ، أي العطاء المعطى ، وذلك أنه ترادفت اللعنتان ، لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة أو الرفد المدد ، فكأن اللعنة في الدنيا رفدت ، أي أمددت باللعنة الأخرى يوم القيامة.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠))
(ذلِكَ) النبأ ، أي الخبر ، مبتدأ ، خبره (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي بعض أخبار القرى المهلكة (نَقُصُّهُ) خبر بعد
__________________
(١) فمن عطف على الضمير المفعول ، ب س : ـ م.
(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ٥٣.
(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٤١.
(٤) المؤمن (٤٠) ، ٣٩.