(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١))
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي بعصيانهم وشركهم فيعاجلهم بالعقوبة (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض وهو إضمار قبل الذكر بدلالة قوله (مِنْ دَابَّةٍ) يعني لأهلها كلها بشؤم ظلم (١) الظالمين ، قيل : «قد فعل الله ذلك في زمان نوح عليهالسلام إلا من نجا السفينة من الأناسي والدواب» (٢) ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : «إن الجعل ليعذب في حجره بذنب ابن آدم» (٣) ، وقيل : «المراد من الدابة هنا المشركون» (٤) ، وقيل معناه : لو يؤاخذكم الله الآباء بظلمهم لا نقطع النسل فلم يبق في الأرض أحد (٥)(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) بالفضل والعفو (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت معلوم وهو منتهى آجالهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي إذا قرب وقت عذابهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) عن الوقت (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [٦١] بالتعذيب قبل الوقت.
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ) أي يقولون له (ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم وهو البنات أو يعطون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها (وَتَصِفُ) أي وتقول (أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) مفعول «تَصِفُ» (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) بفتح (أَنَّ) في محل النصب بدل من «الكذب» ، أي تقول ألسنتهم أن لهم البنين لقول قريش لنا البنون ، وقيل : (الْحُسْنى) الجنة (٦) ، يعني لنا الجنة في الآخرة مع أعمالهم الخبيثة كقوله (لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)(٧) ، ثم قال تعالى (لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) يوم القيامة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) [٦٢] بكسر الراء ، أي مسرفون في العصيان على أنفسهم ، وبفتحها (٨) ، أي متروكون في النار منسيين من أفرطته إذا تركته ، وقيل : «متقدمون إلى النار» (٩) ، ومنه حديث النبي عليهالسلام : «أنا فرطكم على الحوض» (١٠) ، أي مقدمكم وإمامكم عليه.
(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))
(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلا (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد كما أرسلناك إلى هذه الأمة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة حين أطاعوه وكذبوا الرسل (فَهُوَ) أي الشيطان (وَلِيُّهُمُ) أي ناصرهم ، يعني ليس لهم ناصر غيره (الْيَوْمَ) أي في زمان الدنيا أو في الآخرة ، فيكون حكاية للحال الآتية ، المعني : أنه عاجز عن نصر نفسه ، فكيف ينصر غيره ، ففيه نفي للناصر بأبلغ الوجوه أو هو قرينهم في النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٦٣] أي وجيع دائم في الآخرة ، فهذا تهديد للكفار وتسلية للنبي عليهالسلام ليصبر على أذاهم كما صبر الرسل قبله.
(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))
(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وهو دين الحق أو البعث أو الحلال والحرام ، والمراد بالمتخلفين المؤمنون والكافرون ، قوله (وَهُدىً وَرَحْمَةً) عطف على (لِتُبَيِّنَ) ، أي وللهداية من الضلالة وللمرحمة من عذاب النار (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٦٤] أي يصدقون بالقرآن.
__________________
(١) ظلم ، س : ـ ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٥٢.
(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٤.
(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٤.
(٤) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٣ / ١٥٢.
(٥) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٣٤.
(٦) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٣٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٣٥.
(٧) فصلت (٤١) ، ٥٠.
(٨) «مفرطون» : قرأ نافع وأبو جعفر بكسر الراء مع تخفيفها للأول وتشديدها للثاني ، والباقون بفتحها مخففة. البدور الزاهرة ، ١٨٠.
(٩) عن الفراء ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٥.
(١٠) رواه ابن ماجة ، الزهد ، ٣٦ ؛ وأخرج النسائي نحوه ، الطهارة ، ١٠٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٣٥.