(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥))
ثم قال تبيينا (١) لطريق التوحيد (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبسها منه (٢)(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إحيائها بعد يبسها (لَآيَةً) أي لعبرة (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [٦٥] بسمع القلوب لا بسمع الآذان ، فينصفون فيؤمنون ، لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لا يسمع.
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦))
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ثم بينها بقوله (نُسْقِيكُمْ) بضم النون وفتحها (٣)(مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أي بعض ما في بطون الأنعام وهو اسم مفرد يؤدي معنى الجمع وليس بجمع تكسير نعم ، فلذا أفرد الضمير ، وقيل : يجوز أن يرجع إلى النعم وهو مذكر ذكر في الأنعام ، ويجوز أن يراد به جنس الأنعام ، وقد روي عن سيبويه : أن أنعاما أفعال موضوعة على النعم ، فالنعم والأنعام واحد ، فعلى هذا لا يكون جمعا في اللفظ كقولهم ثوب أكياس لضرب من الثياب (٤) ، أي نشربكم مما يحصل في بطون الأنعام (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) ظرف في موضع الحال ، أي كائنا في مكان وسط بين ثفل الكرش (وَدَمٍ) وهو دم العروق (٥) ، ف «من» ابتدائية (لَبَناً خالِصاً) مفعول به ، لا يشوبه شيء من الدم والفرث لما بينه وبينهما حاجز من قدرة الله ، يعني ليس عليه لون دم ولا فيه رائحة الفرث ، بل خالص من ذلك كله (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) [٦٦] أي هنيئا يجري على السهولة في حلق من يشربه وهو حجة لمن يقول بطهارة المني وإن جرى مجرى البول بامكان الحاجز بينه وبين مجرى البول كما كان الحاجز بين اللبن وبين الفرث والدم ، فلم يمتنع خروجه طاهرا ، قال ابن عباس : «إذا أكلت الدابة العلف استقر في كرشها فطحنته (٦) فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما» (٧) ، والكبد مسلط على هذه الأوصاف الثلثة يقسمها بتقدير الله ، فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو ، فسبحان من يخلق الأشياء بحكمتها.
(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧))
قوله (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) يتعلق بمحذوف ، دل عليه (نُسْقِيكُمْ) قبله ، أي وإن لكم لعبرة أيضا فيما نسقيكم ونرزقكم من عصير ثمرات النخيل (٨)(وَ) من عصير (الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) أي من جنس الثمرات أو من الثمر المحذوف قبل (تَتَّخِذُونَ) إن جعلته مبتدأ و (مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) خبرا له ، فيكون الجملة مستأنفة لا عطفا على قبله ، تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، أي من بعض الثمر (سَكَراً) أي خمرا ، وهذا قبل تحريم الخمر أو السكر الخل فلا نسخ (٩) أو النبيذ ، وهو الذي طبخ حتى ذهب ثلثاه ويترك إلى الاشتداد فهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر ، حرام عند الشافعي (١٠)(وَرِزْقاً حَسَناً) وهو ما يتخذ من الثمر كالزبيب والتمر وكل ما يدخر منه رطبا ويابسا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي لعبرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٦٧] أي يفهمون توحيد الله وقدرته.
__________________
(١) تبيينا ، ب م : تنبيها ، س.
(٢) منه ، ب م : ـ س.
(٣) «نسقيكم» : قرأ نافع والشامي وشعبة ويعقوب بالنون المفتوحة وأبو جعفر بالتاء المفتوحة ، والباقون بالنون المضمومة. البدور الزاهرة ، ١٨٠.
(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٥٣.
(٥) دم العروق ، ب : الدم المعروف ، س م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤٠.
(٦) فطحنته ، م : فطبخته ، ب س ؛ والنظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٦.
(٧) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٤٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٦.
(٨) النخيل ، س م : النخل ، ب ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٣٦ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٤.
(٩) قال الشعبي والنخعي : إن هذه الآية منسوخة ، انظر الكشاف ، ٣ / ١٥٤ ؛ وانظر أيضا قتادة ، ٤٤ ؛ وهبة الله سلامة ، ٥٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٦ ؛ وابن الجوزي ، ٤١.
(١٠) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٥٤.