(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨))
(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وهو مذكر في اللفظ ، مؤنث في المعنى كالنخل في الشجر ، أي ألهمها وقذف في أنفسها وهي زنابير العسل ، وقيل : جمع واحدها نحلة (١)(أَنِ اتَّخِذِي) «أن» فيه مفسرة (مِنَ الْجِبالِ) «من» فيه تبعيض (بُيُوتاً) أي مساكن تأوي إليها (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [٦٨] أي يبنون لك من الأماكن.
(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))
(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من حلوها وحامضها وغيرهما (فَاسْلُكِي) أي فادخلي (سُبُلَ رَبِّكِ) أي طرقه التي ألهمك وعرفك الرجوع إلى مسكنك (ذُلُلاً) حال من (سُبُلَ) ، أي سهلة المسالك في الجبال وخلال الأشجار أو حال من (النَّحْلِ) ، جمع ذلول ، أي مطيعة منقادة للمراد منك بالتسخير ، يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان لمصلحة لها ولهم ، ثم أخبر عن وصفها تعجيبا فقال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) أي أفواها (شَرابٌ) أي عسل ، لأنه يشرب منه (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) من أبيض وأخضر وأحمر وأصفر وأسود.
قيل : إنه يختلف باختلاف الشبابة والكهولة والشيخوخة وغيرها من النحل (٢) ، ويحتمل أن يكون الاختلاف في الألوان باختلاف المأخذ كما يختلف طعم العسل من حلوه ومره بها ، روي : أن العسل ينزل من السماء فيستقر في مكان ، فتأتيه النحل وتشربه ثم تأتي الخلية (٣) فتلقيه في الشمع المهيأ له لا كما يظن بعضهم أنه من فضلات الغذاء يستحيل في المعدة عسلا وفي هذه الرواية ضعف ، لأن أهل الخبرة من أصحاب النحل قالوا : إن الزنابير تأكل من الثمار والأنوار فيغير الله تعالى بقدرته الثمر والنور في بطونها عسلا ، فاذا امتلأت بطونها تجيء من مسالكها التي ذهبت إلى بيوتها فتلقيه إلى الشمع من بطونها كما صرح الله تعالى به سبحان من يخيل النور عسلا في أجواف الزنابير (٤)(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) أي في العسل شفاء الأوجاع التي يعرف شفاؤها منه ، يعني أنه من جملة الأشفية المشهورة النافعة لأمراض الناس وليس الغرض أنه شفاء لكل مرض ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : «العسل شفاء من كل داء» (٥) ، يعني من بعضها كقولهم الماء حيوة من كل شيء ، ومنه ما يقتل المريض ، وقال عليهالسلام : «عليكم بالشفاءين القرآن والعسل» (٦) ، يعني القرآن شفاء لما في الصدور والعسل شفاء لما في الأبدان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [٦٩] فيعتبرون من أمر النحل المطيعة لوحي ربها العاملة باذنه ما لا يقدر عليه أحد من خلقه فيؤمنون.
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقبض أرواحكم صبيانا أو شبانا أو كهولا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أردئه (٧) إلى الهرم (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئا لشدة هرمه ، ف (شَيْئاً) منصوب ب (لا يَعْلَمَ) ، يعني يعتريه حال النسيان عند هرمه ، فلا يفهم ما كان يفهمه قبل هرمه وكبره ، وقيل : هذا في الكافر ، لأن المسلم يزداد عقله بصلاحه في طول عمره كرامة له (٨) ، قال عليهالسلام : «من
__________________
(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٣٦.
(٢) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٤١.
(٣) الخلية ، م : الحلبة ، ب س.
(٤) وهذا مأخوذ عن مفاتيح الغيب ، ٢٠ / ٥٨.
(٥) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٤٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٧ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٥.
(٦) رواه ابن ماجة ، الطب ، ٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٧ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٥.
(٧) أردئه ، ب س : أرديه ، م.
(٨) اختصره المؤلف من مفاتيح الغيب ، ٢٠ / ٦٣.