هذه الأمة فقبلوها ، وبورك لهم فيها بمغفرة الذنوب ونزول الرحمة عليهم (١)(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) أي ليقضي (بَيْنَهُمْ) ببيان الحق معاينة (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [١٢٤] من دين الحق ، يعني ليجازيهم جزاء اختلافهم في التحليل والتحريم وتعيين يوم من الأسبوع للعبادة وتعظيم غير ما فرض الله عليهم.
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))
ثم قال لنبيه عليهالسلام (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) أي إلى الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) أي بالقرآن والنبوة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أي بالقول اللين الرفيق من غير غلظة ولا تعنيف ، قال عليهالسلام : «أمرنا أن أكلم الناس على قدر عقولهم» (٢) ، وقيل : الموعظة الحسنة الدعوة إلى الله بالترغيب والترهيب (٣)(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي المرضية عند الله ، وهي أن لا يكون لك فيها غرض من أغراض الدنيا ولا أذى لهم ولا تقصير في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق ، وهذا منسوخ بآية السيف (٤)(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دينه الحق (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [١٢٥] أي المستقيمين في الدين.
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦))
قوله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) نزل بالمدينة في شهداء أحد ، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بحمزة وحاله من المثلة السيئة وهي تبقير بطنه وجدع أنفه وأذنه وجب مذاكيره جزعوا جزعا شديدا ، وقالوا : لئن ظفرنا بقريش لنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، ثم رأى النبي عليهالسلام عمه حمزة بحاله التي بها رأوه ، فقال : والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك ، فقال الله تعالى : إن كنت لا بد فاعلا بموتاهم فافعل بهم مثل ما فعلوا بموتاك ، فكف رسول الله عليهالسلام عن المثلة وكفر عن يمينه (٥) ، قيل : لا خلاف في تحريم المثلة لورود الأخبار بالنهي عنها حتى الكلب العقور (٦) ، روي : أنه لم يبق أحد من قتلى أحد من المسلمين إلا وقد مثل به غير حنظلة بن الراهب (٧)(وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) بالعفو على ترك القصاص (لَهُوَ) أي صبركم (خَيْرٌ) في الثواب (لِلصَّابِرِينَ) [١٢٦] أي لكم من الانتقام ، فقال عليهالسلام : «بل نصبر عليه ونمسك عن المكافاة» (٨) ، قيل : «كان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي عليهالسلام بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال ، فلما أعز الله الإسلام وأهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد ، نسخت هذه الآية (٩).
(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧))
(وَاصْبِرْ) أي دم على الصبر ، ففيه عزم عليه بالصبر (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي بتوفيقه للصبر وربطه على
__________________
(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٥٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٥٥.
(٢) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.
(٣) نقله عن البغوي ، ٣ / ٤٥٨.
(٤) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٤٥٨ ؛ وانظر أيضا النحاس ، ١٨٠ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٦٠ ؛ وابن الجوزي ، ٤٢.
(٥) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٥٦ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٥٨ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٦٨.
(٦) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٦٨.
(٧) وهذا منقول عن البغوي ، ٣ / ٤٥٨.
(٨) انظر البغوي ، ٣ / ٤٥٨. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.
(٩) عن ابن عباس والضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٥٨ ؛ وانظر أيضا ابن الجوزي ، ٤٢.