نصب على الحال أيضا ، أي سريعا في طلبه دوام الدنيا (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ) برفع الكل للابتداء ، والخبر (مُسَخَّراتٍ) أي مذللات بالجري لبني آدم ، وبالنصب للعطف على منصوب «خلق» ونصب «مسخرات» على الحال (١)(بِأَمْرِهِ) أي بتصرفه ومشيته (أَلا) كلمة التنبيه بمعنى تنبهوا (لَهُ الْخَلْقُ) كله ، لا اشتراك لأحد في خلق شيء من الأشياء (وَالْأَمْرُ) أي له الأمر كله بأن يأمرهم ويحكم فيهم بما شاء وينفذ أمره فيهم لا راد لذلك (تَبارَكَ اللهُ) أي تعاظم وتزايد خيره في خلقه من البركة ، وهي تزايد الخير (رَبُّ الْعالَمِينَ) [٥٤] أي مربيهم ومالكهم.
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥))
ثم أمرهم بأن يدعوه لا غيره بقوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) أي تذللا (وَخُفْيَةً) أي سرا ، كلاهما نصب على الحال ، أي ذوي تضرع وخفية ، يعني ادعوه سرا وعلانية ، قيل : «بين دعوة السر والعلانية سبعون ضعفا» (٢)(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [٥٥] أي المتجاوزين الحد في بالدعاء برفع الصوت أو بسؤال منازل الأنبياء ، فانه ظلم وحرام ، وقيل : هو الدعاء بما لا يحل والدعاء باللعن والخزي أو بالشر (٣).
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) بارسال الرسول وإنزال كتاب ، إذ المعصية فساد الأرض وأهلها أو لا تظلموا فيها فتخربوها ، إذ الأرض قامت بالعدل (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي ادعوه في حال الخوف والطمع إلى لقائه (٤) أو اعبدوه خوفا من عذابه وطمعا في رحمته (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [٥٦] ولم يقل قريبة لإرادة المطر أو الخير أو لكونه صفة شيء ، أي شيء قريب أو بمعنى الترحم ، والمعنى : أن المحسنين قريب من الجنة وهم الموحدون بالإخلاص.
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧))
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) بضم الباء وسكون الشين ، من البشراة ، جمع بشير ، وبضم النون والشين جمع نشور ، أي ناشرة للمطر ، وبضم النون وسكون الشين تخفيف نشر ، وبفتح النون وسكون الشين مصدر نشر (٥)(بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام نعمته ، وهي المطر (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) أي حملت الرياح (سَحاباً) جمع سحابة (ثِقالاً) بالمطر (سُقْناهُ) أي نسوق السحاب (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي لإحياء مكان يابس لا نبات فيه (فَأَنْزَلْنا بِهِ) أي بالبلد أو بالسوق (الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بالماء أو بالسحاب أو بالبلد (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من ألوانها (كَذلِكَ) أي مثل إخراج النبات من الأرض بالماء (نُخْرِجُ الْمَوْتى) من القبور يوم نفخة الصورة الثانية ، قيل : «إذا كان وقت النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين ليلة مثل مني الرجال ، فتنبت الأجساد تحت الأرض بذلك الماء ، ثم نفخ في الصور فاذا هم قيام ينظرون» (٦)(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [٥٧] يا أهل مكة ، فتؤمنون بالبعث.
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))
ثم ضرب مثلا لمن ينتفع بالوعظ ولمن لا ينتفع به بعد البيان تشبيها به فقال (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ
__________________
(١) «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ» : قرأ ابن عامر برفع الأسماء الأربعة ، والباقون بنصبها ، ولا يخفى أن نصب «مسخرات» يكون بالكسرة الظاهرة لكونه جمع مؤنث سالما. البدور الزاهرة ، ١١٨.
(٢) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٢ / ٤٨٢.
(٣) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٥٤٧.
(٤) إلى لقائه ، ب م : ـ س.
(٥) «بشرا» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان بالنون المضمومة مع ضم الشين ، وقرأ الشامي بالنون المضمومة مع سكون الشين ، والأخوان وخلف بالنون المفتوحة وسكون الشين وعاصم وحده بالباء الموحدة المضمومة مع سكون الشين. البدور الزاهرة ، ١١٨.
(٦) عن أبي هريرة وابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ٤٨٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٥٤٨.