ابن عباس ثابتة لمجيئها (١) عن كثير من الصحابة ، فلا يجوز دفعها وإلا لرجع الطعن إلى أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويجب للطاعن أن يطعن في فهم نفسه لا في الصحابة (٢) ، وقيل : هي التي تخرج وقتا بعد وقت إلى يوم القيامة (٣)(وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) وهذا من باب التمثيل ، لأنه تعالى نصب أدلة على وحدانيته ، وشهدت بها عقولهم التي جعلها فيهم مميزة بين الضلال والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم باقرارهم وقال لهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وكأنهم (قالُوا بَلى) أنت ربنا (شَهِدْنا) على أنفسنا باقرارنا على وحدانيتك ، وباب التمثيل واسع في كلام العرب وفي كلام الله ورسوله كثير لتصوير المعاني المبهمة ، وأورد (بَلى) دون «نعم» ليثبت إيمانهم بجوابهم ، ولو قالوا في الجواب «نعم» لكفروا ، ولأن «نعم» لتقرير ما سبق من النفي ، و (بَلى) إثبات لما بعد النفي كما قدرناه ، قوله (أَنْ تَقُولُوا) بالياء والتاء (٤) في محل النصب مفعول له لفعل محذوف ، تقديره : فعلنا ذلك بهم من نصب الأدلة العقلية الشاهدة على صحة الشهادة والإقرار كراهة أن تقولوا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) الإقرار (غافِلِينَ) [١٧٢] لم ننبه ، فلم يبق لهم حجة علينا.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣))
قوله (أَوْ تَقُولُوا) عطف على (أَنْ تَقُولُوا) ، أي أو فعلنا ذلك بهم كراهة أن يقولوا (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبلنا بنقض العهد (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) لم نشعر ذلك ، وإنما لزمهم الميثاق المأخوذ عليهم وهم في الأصلاب مع نسيانهم إياه لظهور الدلالة على الوحدانية فلم يبق لهم اعتذار بالنسيان وباشراك آبائهم وكونهم من بعدهم ، لأنه لا يمكنهم بعد هذا الإقرار أن يقولوا ذلك ولا أن يقولوا (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [١٧٣] أي آباؤنا المعرضون عن الحق بالباطل ، وهو الإشراك فلا عذر لهم حينئذ.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))
(وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان البليغ في أمر الميثاق (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبينها لهم ليتعظوا بها (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [١٧٤] أي وليرجعوا إلى الحق من الباطل بالتوبة.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥))
ثم أمر نبيه عليهالسلام بقوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي اقرأ على اليهود إن لم يتوبوا بذكر الميثاق (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) أي أخبر خبر من أعطيناه علم التورية ، وهو بلعم بن باعورا من علماء بني إسرائيل من الكنانيين ، قيل : «هو الذي دعا على موسى ، وكان مستجاب الدعوة ، فانقلب دعاؤه عليه واستطال لسانه على صدره» (٥)(فَانْسَلَخَ) أي خرج (مِنْها) أي من الآيات بكفره كما يخرج الحية من جلدها ، يعني لم ينتفع بعلمه كالحية بجلدها (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي فصار الجن تابعا له وقرينه فغره (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) [١٧٥] أي فصار عالم الآيات من الضالين عن طريق الهدى ، قيل : هذه الآية أشد آية على العلماء الذين لا يعملون بما يعلمون (٦) ، لأن علمهم يكون وبالا عليهم.
(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦))
ثم قال تعالى في شأن ذلك العالم (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي لعظمناه بالآيات واثبتناه في منازل الأبرار من العلماء ، يعني لو لزم العمل بعلمه بالآيات بعد الإيمان ولم ينسلخ منها لرفعنا درجته في الدنيا والآخرة (وَلكِنَّهُ
__________________
(١) لمجيئها ، ب م : بمجيئها ، س.
(٢) اختصره من السمرقندي ، ١ / ٥٧٩ ـ ٥٨٠.
(٣) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٥٧٩ ، ٥٨٠.
(٤) «أن تقولوا» : قرأ أبو عمرو بياء الغيب ، والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ١٢٦.
(٥) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٤٧.
(٦) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.