هذه الأمة أشباه أولئك» (١) وقرأ الاية (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) من ذلك العرض الخسيس (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) محارم الله من الرشى وغيرها (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [١٦٩] أي أيطعمون إلى هذا الدني فلا يعلمون (٢) بالعقل أن الآخرة خير من الدنيا الدنية ، قرئ بالياء غيبة وبالتاء خطابا (٣).
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) بالتخفيف من أمسك وبالتشديد (٤) من مسك ، مبتدأ ، أي الذين يعملون بالتورية ولا يغيرونها (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أتموها ، وإنما أفردها بالذكر مع أن التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة إظهارا لمزية الصلوة لكونها فارقة بين الكفر والإيمان ووجه الدين وعماده ، وخبر المبتدأ (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [١٧٠] أي العاملين بالصلاح وهم الذين يمسكون بالكتاب ، والمراد لا نضيع أجرهم ، وضع المظهر موضع المضمر تبيينا لصفة من تمسك بالكتاب ، لأن غير المصلحين ليسوا بمتمسكين بالكتاب.
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))
قوله (وَإِذْ نَتَقْنَا) أي قلعنا (الْجَبَلَ) من الأرض ورفعناه (فَوْقَهُمْ) أي على رؤوسهم ، نزل إخبارا عما أبى اليهود تحمل أحكام التورية لمشاقها فانذروا بقلع الجبل فوقهم (٥)(كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) وهي كل ما أظل من غمام وغيره (وَظَنُّوا) أي أيقنوا (أَنَّهُ) أي أن الجبل (واقِعٌ بِهِمْ) أي ساقط عليهم ، فقبلوا التورية وما فيها من الأحكام ، فقلنا لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أي اعملوا بما أعطيناكم من التورية (بِقُوَّةٍ) أي بجد واجتهاد وإن شق عليكم (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي اعلموه (٦) واعملوا به ولا تنسوه من الأحكام الأمر والنهي (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [١٧١] أي لكي تبلغوا مقام الاتقاء (٧) من العصيان.
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢))
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) أي اذكر وقت أخذ الله تعالى الميثاق (مِنْ بَنِي آدَمَ) وأبدل منه (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل اشتمال أو بدل البعض من الكل ، أي أخذ من ظهور بني آدم (ذُرِّيَّتَهُمْ) مفردا وجمعا (٨) ، أي ذرياتهم بالكسر مفعول «أخذ» حين استلوا من ظهر آدم ، واستل أولادهم من ظهورهم ولم يقل من آدم للعلم بأنهم كانوا أولاده ، قيل : المراد من الذرية هي التي أخرجهم الله من ظهر آدم (٩).
قال ابن عباس : مسح الله على ظهر آدم فأخرج ذريته من صلبه كهيئة الذر من هو مولود إلى يوم القيامة ، وأخذ ميثاقهم وبعضهم طعن في قوله رواية ودراية ، أما الرواية ، فلأنها رواية أبي صالح ، وهو ليس من الثقات ، وأما الدراية ، فلأنه لا يجوز من الحكيم أن يخاطب الذر الذي لا عقل له لأجل العقلاء ، ولأن حجة الله بشيء إنما تكون حجة إذا كان المخاطب ذاكرا له ، ولأنه يلزم الأحياء ثلث مرات فيخالف قوله (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)(١٠) ، ولأنه قال (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل من ظهر آدم ، والصحيح أن الرواية من
__________________
(١) انظر الكشاف ، ٢ / ١٤٤.
(٢) فلا يعلمون ، ب م : أفلا يعلمون ، س.
(٣) «تعقلون» : قرأ المدنيان وابن عامر وحفص ويعقوب بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٢٥.
(٤) «يمسكون» : قرأ شعبة بسكون الميم وتخفيف السين ، والباقون بفتح الميم وتشديد السين. البدور الزاهرة ، ١٢٥.
(٥) لعل المؤلف اختصره من الكشاف ، ٢ / ١٤٥.
(٦) اعلموه ، ب م : إعلموا ، س.
(٧) الاتقاء ، ب س : الأتقياء ، م.
(٨) «ذربتهم» : قرأ المدنيان والبصريان والشامي باثبات الألف بعد الياء التحتية مع كسر التاء ، والباقون بحذف الألف ونصب التاء. البدور الزاهرة ، ١٢٦.
(٩) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٥٧٩.
(١٠) غافر (٤٠) ، ١١.