فقال تعالى واتركوا الذين يميلون ويجادلون في أسماء الله تعالى بالإشراك بها ، وحقيقة الإلحاد هو الميل عن الحق ، وقيل : «إلحادهم تسميتهم أصنامهم آلهة» (١) ، واشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز والمناة من المنان ، وقيل : «تسميتهم الله بما لم يتسم» (٢) ، وأسماء الله توقيفية لا يجوز تسميته باسم إلا باذن الشارع (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [١٨٠] أي سيعاقبون بعملهم من الشرك والإلحاد في الأسماء ، ونسخ الآية بآية القتال (٣).
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))
قوله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ) أي جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي يدعون الناس بالحق إلى الحق (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [١٨١] أي وبالحق يحكمون ، نزل حين قال ناس من أصحاب النبي عليهالسلام : يا رسول الله! قد ذكر الله بني إسرائيل بالخير بقوله (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)(٤) ونحن قد آمنا بك وبالرسل والكتب (٥) ، فقال تعالى ذلك تسلية لقلوبهم ، قيل : كان النبي عليهالسلام يقول إذا قرأ هذه الآية : «قد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» (٦) ، وقال عليهالسلام : «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى» (٧) ، قيل : هم العلماء بالله الذين يدعون الناس إلى الدين (٨).
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢))
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن ومحمد (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم من العذاب بأن نرادف النعم عليهم وننسيهم الشكر فينهمكوا في الغي ، فكلما زاد نعمتهم جددوا معصيتهم فيتقربون بذلك إلى الهلاك (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [١٨٢] ما يراد بهم.
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣))
(وَأُمْلِي لَهُمْ) عطف على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) ، فيدخل في حكم السين ، أي وسأطيل أعمارهم ليتمادوا في المعصية (إِنَّ كَيْدِي) أي أخذي واستدراجي (مَتِينٌ) [١٨٣] أي قوي ، وسماه كيدا لشبهه به من حيث أنه إحسان في الظاهر ، وخذلان في الحقيقة.
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤))
قوله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) نزل حين دعا النبي عليهالسلام قائما على الصفا ذات ليلة قريشا فخذا فخذا بأسمائهم يحذرهم من عقاب الله تعالى ليؤمنوا ويعبدوا الله ويتركوا عبادة غيره ، فقال بعضهم إنه مجنون بات يهوت إلى الصباح (٩) ، أي أيقولون إنه لمجنون ولم ينظروا في معجزاته (١٠) ليعلموا ما بالرجل الذي يصاحبهم ويجالسهم ويكلمهم من جنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [١٨٤] أي ما هو إلا نبي مرسل نذير ظاهر بالحجة ينذرهم ليعتبروا فيؤمنوا وهو تأكيد لكذبهم أنه مجنون.
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥))
ثم قال توبيخا لهم عن ترك النظر الموصل إلى معرفة الله وتوحيده بالاستدلال من صنعه (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا)
__________________
(١) نقله المؤلف عن البغوي ، ٢ / ٥٧٦.
(٢) ذكره أهل المعاني ، انظر البغوي ، ٢ / ٥٧٦.
(٣) وهذا الرأي لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، انظر ابن الجوزي ، ٣٦.
(٤) الأعراف (٧) ، ١٥٩.
(٥) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٥٨٥ ـ ٥٨٦.
(٦) انظر الكشاف ، ٢ / ١٤٨. ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٧) روى مسلم نحوه ، الإيمان ، ٢٤٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٤٨.
(٨) نقله عن الكشاف ، ٢ / ١٤٨.
(٩) عن قتادة ، انظر الغوي ، ٢ / ٥٧٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٥٨٦.
(١٠) في معجزاته ، ب م : إلى معجزاته ، س.