وكان معاوية أدهى من أبيه الذي كبر وخرف في آخر عمره ومن دهائه وعزمه كان يحتفظ بصورة الاسلام مدة إمرته بالشام عشرين سنة فلا يصطدم بشعيرة من شعائره ، ولا يتطاول إلى اعتراض قاعدة من قواعده فلا يتجاهر بشرب الخمر والاغاني ، ولا يقتل النفس المحرمة ولا يلعب بالفهود ، ولا يضرب على المزمار والعود ، نعم : قد يلبس الحرير والديباج وطيلسان الذهب ولا بأس بذلك فانه « كسرى العرب » وما احتفظ بشعائر الاسلام إلا لحاجة في نفس يعقوب ، ومن باب الهدوء قبل العاصفة والمشى رويدا لأخذ الصيد.
بقى على ظاهر الايمان المبطن بالكفر مدة مخالفته ومحاربته لامير المؤمنين في صفين ، فلما استشهد سلام الله عليه ، تنفس الصعداء ، وغمرته المسرة وامكنته الفرصة من اللعب على الحبل وتدبير الحيل ، ولكن بعد أن بويع الحسن «ع» والتف عليه الأبطال من أصحاب أبيه. وشيعته ومواليه ، ومنهم الرءوس ، والضروس ، والانياب ، والعديد ، والعدة ، والسلاح ، والكراع ، فوجد أنه وقع في هوة أضيق وأعمق من الأولى ، فان الحسن سبط رسول الله ، وابن بنته ، وريحانته ، وهو لوداعته ، وسلامة ذاته محبوب للنفوس لم يؤذ أحدا مدة عمره ، بل كان كله خير وبركة ، ولم تعلق به تهمة الاشتراك بقتل عثمان ، بل قد يقال إنه كان من الذابين عنه فكيف يقاس معاوية به وكيف يعدل الناس عن ابن فاطمة بنت رسول الله «ص» إلى ابن هند آكلة الأكباد ، اقلق معاوية ، وأقضّ مضجعه التفكير بهذه النقاط المركزة التي لا مجال فيها للنقاش والجدال ، ولكن سرعان ما اهتدى بدهائه ومكره إلى حل عقدتها وكشف كربتها ، فلجأ إلى عاملين قويين ، « أولهما » المال الذي يلوى اعناق الرجال ، ويسيل في لعبه