الكلام(١) قد سرت فيهم المفسدة أكثر منها في غيرهم ، لأنهم قاعدون في طريق الشريعة ، والمفسدة والحرب ، والفتك ، والحيات ، والعقارب ، والسموم ، والسباع في الجادة أعظم ضرراً منها في ثنيات الطريق ، مع أن داءهم جاء من الخوض في الكلام ، وصاروا أشد عصبية من المتكلمين ، لأن المتكلمين بنوا أمرهم على التفتيش ، وأن لا يلام الطالب على المباحثة وإيراد الأسئلة ، واختراع التعليلات ، بل يعدون ذلك ظرافة وكمالاً ، فربما انكشف للمتأخر مع تعاقب الأنظار تقارب كلام الفريقين ونحو ذلك ، كما انكشف لأتباع الأشعري بطلان الجبر ، ثم تشبّثوا بالكسب ، ثم تبين عواره ، فصاروا إلى مذهب المعتزلة من حيث المعنى كما مضى ، وليس ثبوت الاختيار يختص بالمعتزلة حتى ينفر منه ، إنما هو دين الله وحجته.
فمن حقّق من المتأخرين هون ما عظم سلفه ، ولانت عريكته.
وأمّا المحدّثون فإنما أخذوا شيئأ بأول رؤية ، ثم لم ينقروا كأن ذلك بدعة وصدقوا ، ولكنه بدعة من أوله إلى آخره ، فما لهم دخلوا فيه! كأن دخولهم من غير نيّة ، لكن دس لهم الشيطان :
أنتم أهل السنة فمن يذب عنها إن تركتم هؤلاء؟ فلا هم اقتصروا على ما هم عليه ولا هم بلغوا إلى مقاصد القوم ليتمكنوا من الرد عليهم!
هذا الإمام أحمد حفظه للسنة ، وتقدمه وتجريده نفسه لله سبحانه وتعالى لا يجهل ، لكنه لما تكلم في مسألة خلق القرآن وابتلي بسببها ، جعلها عديل التوحيد أو زاد! حتى إنه بلغه أن محمد بن هارون قال لإسماعيل بن علية :
يابن الفاعلة! قلت : القرآن مخلوق! أو نحو هذه العبارة!
__________________
(١) أي علم الكلام.