وقال بعض العرفاء : العزلة في الحقيقة اعتزال الخصال المذمومة ، لا الانقطاع عن الإخوان والتنائي عن الأوطان ، فلهذا قيل للعارف : (كائن بائن) أي كائن مع الخلق ، بائن عنهم بالسرّ ، كما ورد في الأثر : (كن مع الناس ، ولا تكن معهم) ، أي : كن معهم بالأجساد ، ولا تكن بالأرواح ، فإنّ المؤمن تعلّقت روحه بالملأ الأعلى ، فإنّه يستأنس بالله ويطمئنّ قلبه بذكر الله سبحانه.
والعقلاء إنّما يختارون العزلة لفوائدها الجمّة ، ولقلّة إخوان الصفا وخُلاّن الوفاء ، وقد علموا أنّ المعاشرة مع الأبرار الصالحين والأخيار المتّقين ، أفضل من الوحدة والانفراد والعزلة ، ومن يترك الأخيار اختياراً ابتلي بالأشرار اضطراراً ، فإن لم نجد من يتحلّى بالعقل ، ولم يتجمّل بالعلم والفضل والأدب ، لزمنا زوايا البيوت والمدارس ، وتوكّلنا على الحيّ الذي لا يموت (١) ، ونعمل بما قاله الإمام الكاظم (عليه السلام) : « قطيعة الجاهل تعدل صلّة العاقل ».
هذا وكبار علمائنا الأعلام في وصاياهم لأولادهم وتلامذتهم ، كانوا يحثّونهم على اختيار العزلة ، عند فساد الزمان.
ومن وصايا سيّدنا الاُستاذ السيّد النجفي المرعشي (قدس سره) : وبتقليل المعاشرة ، فإنّ المعاشرة والدخول في نوادي الناس في هذه الأعصار محظور مخطور ، قلّما يرى ناد يخلو عن البهت والغيبة في حقّ المؤمنين والإرزاء بهم ، وتضييع حقوقهم واُخوّتهم.
__________________
١ ـ آداب النفس : ٤١ ـ ٦٣.