فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية وقد ركبوا أمرا عظيما ولذلك وبخهم عيسى (عليهالسلام) بقوله:« اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ».
ولذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه وفسروا قولهم ثانيا بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم ، ويزيل عنه تلك الحدة فقالوا : « نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ » فضموا إلى غرض الأكل أغراضا أخر يوجه اقتراحهم ، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالأمور العجيبة والعبث بآيات الإلهية بل له فوائد مقصودة : من كمال علمهم وإزالة خطرات السوء من قلوبهم وشهادتهم عليها.
لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الأكل ومنه كانت الخطيئة ولو قالوا : « نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا ، إلخ » لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا : « (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) ، إلخ » فإن الكلام الأول يقطع جميع منابت التهوس والمجازفة دون الثاني.
ولما ألحوا عليه أجابهم عيسى عليهالسلام إلى ما اقترحوا عليه والتمسوه وسأل ربه أن يكرمهم بها ، وهي معجزة مختصة في نوعها بأمته لأنها الآية الوحيدة التي نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهرا وهو أكل المؤمنين منها ، ولذلك عنونها عليهالسلام عنوانا يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة والكبرياء فقال : « اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا » فعنونها بعنوان العيدية ، والعيد عند قوم هو اليوم الذي نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس ، وكان نزول المائدة عليهم منعوتا بهذا النعت.
ولما سأل عيسى ربه ما سأل ـ وحاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته وأن ربه لا يمقته ولا يفضحه ، وحاشا ربه أن يرده خائبا في دعائه ـ استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذابا يختص به من بين جميع الناس كما أن الآية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الأمم فقال الله سبحانه « إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ » ، هذا.