فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة والمسألة حتى وقف موقفا يرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد وعلله بأن ربه سميع الدعاء.
فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه ـ حاشا مقام النبوة ـ فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران : « رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ » أني أسألك ما أسألك لا لأن لطول عبوديتي ـ وهو دعاؤه المديد ـ قدرا عندك أو فيه منه عليك بل لأني أسألك ، وقد وجدتك سميعا لدعاء عبادك ومجيبا لدعوة السائلين المضطرين ، وقد اضطرني خوف الموالي من ورائي ، والحث الشديد لذرية طيبة يعبدك أن أسألك.
وقد تقدم أن من الأدب الذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوف الموالي قوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » والرضي وإن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه ، والرضا يشمل بإطلاقه رضى الله ورضى زكريا ورضى يحيى لكن قوله في آية آل عمران : « ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً » يدل على أن المراد بكونه رضيا كونه مرضيا عند زكريا لأن الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير.
ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله : « قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » : المائدة : ١١٤.
القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى عليهالسلام نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقة على عيسى عليهالسلام لأن ما حكي عنهم من قولهم له : « يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ » كان أولا مشتملا بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه ، ولا يوافق ذلك أدب العبودية وإن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها.
وكان ثانيا متضمنا لاقتراح آية جديدة مع أن آياته عليهالسلام الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كل جهة فكانت نفسه الشريفة آية ، وتكلمه في المهد آية ، وإحياؤه