الموتى وخلقه الطير وإبراؤه الأكمه والأبرص وإخباره عن المغيبات وعلمه بالتوراة والإنجيل والكتاب والحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكا ولا لمرتاب ريبا فاختيارهم آية لأنفسهم وسؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله واللعب بجانبه ، ولذلك وبخهم بقوله : « اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »
لكنهم أصروا على ذلك ووجهوا مسألتهم بقولهم : « نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ » وألجئوه إلى السؤال فسأل.
أصلح عليهالسلام بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة والكبرياء فعنونه أولا بعنوان أن يكون عيدا لهم يختصون هو وأمته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الأنبياء عليهمالسلام حيث كانت آياتهم إنما تنزل لإتمام الحجة أو لحاجة الأمة إلى نزولها ، وهذه الآية لم تكن على شيء من هاتين الصفتين.
ثم أجمل ثانيا ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها وعلمهم بصدقه عليهالسلام وشهادتهم عليها ، في قوله : « وَآيَةً مِنْكَ ».
ثم ذكر ثالثا ما ذكروه من عرض الأكل وأخره وإن كانوا قدموه في قولهم : « (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ، إلخ » وألبسه لباسا آخر أوفق بأدب الحضور فقال : « وَارْزُقْنا » ثم ذيله بقوله : « وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » ليكون تأييدا للسؤال بوجه ، وثناء له تعالى من وجه آخر.
وقد صدر مسألته بندائه تعالى : « اللهُمَّ رَبَّنا » فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياء عليهمالسلام من قولهم « رب » أو « ربنا » لأن الموقف صعب كما تقدم بيانه.
ومنه مشافهته عليهالسلام ربه المحكية بقوله تعالى : « وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » :