« المائدة : ١١٨.
تأدب عليهالسلام في كلامه أولا بأن صدره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال : « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ » : الأنبياء : ٢٦.
وثانيا بأن أخذ نفسه أدون وأخفض من أن يتوهم في حقه أن يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه ، ولذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها : « ما قلت » أو « ما فعلت » وإنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية وتحت الستر فقال : « ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ » فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حق في ذلك حتى يسعني أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم ، ثم قال : « إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ » ، إلخ » فنفاه بنفي لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأن علمك أحاط بي وبجميع الغيوب.
ثم قال : « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ » فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما وإلا أي إني قلت لهم قولا ولكنه هو الذي أمرتني به وهو أن اعبدوا الله ربي وربكم ، وكيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟.
ثم قال : « وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ » وهو نفي منه عليهالسلام لذلك كالمتمم لقوله : « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ » « إلخ » وذلك لأن معناه : ما قلت لهم شيئا مما ينسب إلي والذي قلت لهم إنما قلته عن أمر منك ، وهو « أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ » ولم يتوجه إلى أمر فيما سوى ذلك ، ولا مساس بهم إلا الشهادة والرقوب لأعمالهم ما دمت ، فلما توفيتني انقطعت عنهم ، وكنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتني وبعده وعليهم وعلى كل شيء غيرهم.
وإذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له عليهالسلام أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التي ذكرها ، وبه يحصل تمام النفي فقال : « (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) ، « إلخ » يقول ـ على ما يؤيده السياق ـ وإذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم وهم بمعزل مني فأنت وعبادك هؤلاء إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وللسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم وإشراكهم به وهم مستحقون للعذاب ، وإن تغفر لهم فلا