يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) » فأنبأ أن إقامة الدين لا يتيسر إلا بهداية من الله ، ولا يصلح لها إلا المتصف بالإنابة التي هي الاتصال بالله وعدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرة بعد أخرى ، ثم قال : « وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ » فذكر أن السبب في تفرقهم وعدم إقامتهم للدين هو بغيهم وتعديهم عن الوسط العدل المضروب لهم « الشورى : ١٤ ».
وقال أيضا في نظيرتها من الآيات : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » : الروم : ٣٢ فذكر فيها أيضا أن الوسيلة إلى إقامة دين الفطرة الإنابة إلى الله ، وحفظ الاتصال بحضرته ، وعدم الانقطاع عن سببه.
وقد أشار إلى هذه الحقيقة في الآيات السابقة على هذه الآية المبحوث عنها أيضا حيث ذكر أن الله لعن اليهود وغضب عليهم لتعديهم حدوده فألقى بينهم العداوة والبغضاء ، وذكر هذا المعنى في غير هذا المورد في خصوص النصارى بقوله : « فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ » : المائدة : ١٤.
وقد حذر الله سبحانه المسلمين عن مثل هذه المصيبة المؤلمة التي سيحلها على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وأنبأهم أنهم لا يتيسر ولن يتيسر لهم إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ، وقد صدق جريان التاريخ ما أخبر به الكتاب من تشتت المذاهب فيهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، فحذر الأمة الإسلامية أن يردوا موردهم في الانقطاع عن ربهم ، وعدم الإنابة إليه في قوله : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً » : الروم : ٣٠ في عدة آيات من السورة.
وقد تقدم البحث عن بعض الآيات الملوحة إلى ذلك في ما تقدم من أجزاء الكتاب وسيأتي الكلام على بعض آخر منها إن شاء الله تعالى.
وأما قوله تعالى : « وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً » فقد تقدم البحث عن معناه ، وقوله : « فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ » تسلية منه تعالى لنبيه صلىاللهعليهوآله في صورة النهي عن الأسى.