تهديد لهم بالعذاب الأليم الأخروي الذي هو ظاهر الآية الكريمة.
ولما كان القول بالتثليث الذي تتضمنه كلمة : « إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ » ليس في وسع عقول عامة الناس أن تتعقله فأغلب النصارى يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظة من غير أن يعقلوا معناه ، ولا أن يطمعوا في تعقله كما ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا ، وإنما يتعقل كتعقل الفروض المحالة كالإنسان اللاإنسان ، والعدد الذي ليس بواحد ولا كثير ولا زوج ولا فرد فلذلك تتسلمه العامة تسلما من غير بحث عن معناه ، وإنما يعتقدون في البنوة والأبوة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث ، وإنما يمضغون الكلمة مضغا ، وينتمون إليها انتماء بخلاف غير العامة منهم وهم الذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب ويقرر أن ذلك ببغيهم كما قال تعالى : « (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ـ إلى أن قال : ـ وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) » : الشورى : ١٤.
فالكفر الحقيقي الذي لا ينتهي إلى استضعاف ـ وهو الذي فيه إنكار التوحيد والتكذيب بآيات الله ـ إنما يتم في بعضهم دون كلهم ، وإنما أوعد الله بالنار الخالد الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ، قال : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » : البقرة : ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات ، وقد مر الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ » الآية : النساء : ٩٨.
ولعل هذا هو السر في التبعيض الظاهر من قوله : « لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ » أو أن المراد به الإشارة إلى أن من النصارى من لا يقول بالتثليث ، ولا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله ورسوله ، كما كانت على ذلك مسيحيو الحبشة وغيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى : لئن لم ينته النصارى عما يقولون (نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم) ليمسن الذين كفروا منهم ـ وهم القائلون بالتثليث منهم ـ عذاب أليم.
وربما وجهوا الكلام أعني قوله : « لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ » بأنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر ، والأصل : ليمسنهم (انتهى) ، وإنما عدل إلى وضع الموصول وصلته مكانه ليدل على أن ذلك القول كفر بالله ، وأن الكفر سبب العذاب الذي توعدهم به.