اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وإسلام عدة من مشركي العرب وهم عامة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله : « وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ » « إلخ » ، دون اليهود والمشركين يدل على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلامية وإجابة النبي صلىاللهعليهوآله مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم ويؤدوا الجزية ، وبين أن يقبلوا الإسلام ، أو يحاربوا.
وهذا بخلاف المشركين فإنهم لم يكن يقبل منهم إلا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدل على حسن الإجابة ، على ما كابد النبي صلىاللهعليهوآله من جفوتهم ولقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم ونخوتهم.
وكذلك اليهود وإن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم وتأدية الجزية إلى المسلمين لكنهم تمادوا في نخوتهم ، وتصلبوا في عصبيتهم ، وأخذوا بالمكر والمكيدة ، ونقضوا عهودهم ، وتربصوا الدوائر على المسلمين ، ومسوهم بأمر المس وآلمه.
وهذا الذي جرى من أمر النصارى مع النبي صلىاللهعليهوآله والدعوة الإسلامية ، وحسن إجابتهم ، وكذا من أمر اليهود والمشركين في التمادي على الاستكبار والعصبية جرى بعينه بعده صلىاللهعليهوآله على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبى الدعوة الإسلامية من فرق النصارى خلال القرون الماضية ، وما أقل ذلك من اليهود والوثنيين! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء وهؤلاء يصدق الكتاب العزيز في ما أفاده.
ومن المعلوم أن قوله تعالى : « لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا » من قبيل بيان الضابط العام في صورة خطاب خاص نظير ما مر في الآيات السابقة : « تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا » و « تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ ».
قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ » القسيس معرب « كشيش » والرهبان جمع الراهب وقد يكون مفردا ، قال الراغب : الرهبة والرهب مخافة مع تحرز ـ إلى أن قال ـ والترهب التعبد ، والرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة ، قال تعالى : « وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها » والرهبان يكون واحدا وجمعا فمن جعله واحدا جمعه على رهابين ، انتهى.
علل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودة وآنس قلوبا للذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود والمشركين ، وهي أن فيهم علماء وأن فيهم رهبانا