بصالح العمل ، والشقاوة التي هي الهلاك بطالح العمل ، ومقاما أرفع من المقامين معا ولذلك كان مصدرا للحكم والسلطة عليهما جميعا.
ولك أن تعتبر في تفهم ذلك بما تجده عند الملوك ومصادر الحكم فهناك جماعة منعمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم ، وآخرون محبوسون في سجونهم معذبون بأليم عذابهم قد أحاط بهم هوان الشقاوة من كل جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة وظرف الشقاوة ، والظرفان متمائزان لا يختلطان بظرف آخر ثالث يحكم فيهما ويصلح شأن كل منهما وينظم أمره وفي هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجانبين وإهداء النعم إلى أهل السعادة ، وإيصال النقم إلى أهل الشقاوة ، وهم مع ذلك من السعداء ، وقوم آخر وراء الخدمة والعمال هم المدبرون لأمر الجميع وهم أقرب الوسائط من العرش ، وهم أيضا من السعداء فللسعادة مراتب من حيث الاطلاق والتقييد.
وليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخص قوما برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنة ويبسط عليهم بركاته بما أنه الغفور ذو الفضل العظيم ، ويدخل آخرين في ناره ودار هوانه بما عملوه من سيئاتهم وهو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش ، ويأذن لطائفة ثالثة أن يتوسطوا بينه وبين الفريقين بإجراء أو امره وأحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم وإشقاء من شقي فإنه الواحد القهار الذي يقهر بوحدته كل شئ كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء ، وقد قال تعالى : « لمن الملك اليوم لله الواحد القهار » فافهم.
قوله تعالى : « ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا » الخ ، الإفاضة من الفيض وهو سيلان الماء منصبا ، قال تعالى : « ترى أعينهم تفيض من الدمع » أي يسيل دمعها منصبا ، وعطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدل على أن المراد بالإفاضة صب مطلق النعم أعم من المائع وغيره على نحو عموم المجاز ، وربما قيل : إن الإفاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء وغيره حقيقة حينئذ.
وكيف كان ففي الآية إشعار بعلو مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكان أهل النار.
وإنما أفرز الماء وهو من جملة ما رزقهم
الله ثم قدم في الذكر على سائر ما رزقهم