والشاكرون هم الذين استقرت فيهم صفة الشكر على الإطلاق فلا يمسون نعمة إلا بشكر أي بأن يستعملوها ويتصرفوا فيها قولا أو فعلا على نحو يظهرون به أنها من عند ربهم المنعم بها عليهم فلا يقبلون على شيء ـ أعم من أنفسهم وغيرهم ـ إلا وهم على ذكر من ربهم قبل أن يمسوه ومعه وبعده ، وأنه مملوك له تعالى طلقا ليس له من الأمر شيء فذكرهم ربهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلا بالله ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
فلو أعطي اللفظ حق معناه لكان الشاكرون هم المخلصين ، واستثناء إبليس الشاكرين أو المخلصين من شمول إغوائه وإضلاله جرى منه على حقيقة الأمر اضطرارا ولم يأت به جزافا أو امتنانا على بني آدم أو رحمة أو لغير ذلك.
فهذا ما واجه إبليس به مصدر العزة والعظمة أعني قوله : « فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ » ـ إلى قوله ـ « وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ » فأخبر أنه يقصدهم من كل جهة ممكنة ، ويفسد الأمر على أكثرهم بإخراجهم عن الصراط المستقيم ، ولم يبين نحو فعله وكيفية صنعه.
لكن في كلامه إشارة إلى حقيقتين : إحداهما : أن الغواية التي تمكنت في نفسه وهو ينسبها إلى صنع الله هي السبب لإضلاله وإغوائه لهم أي إنه يمسهم بنفسه الغوية فلا يودع فيهم إلا الغواية كالنار التي تمس الماء بسخونتها فتسخنه ، وهذه الحقيقة ظاهرة من قوله تعالى : « احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ » ـ إلى أن قال ـ « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » ـ إلى أن قال ـ « فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ » : الصافات : ٣٢.
والثانية : أن الذي يمسه الشيطان من بني آدم ـ وهو نوع عمله وصنعه ـ هو الشعور الإنساني وتفكره الحيوي المتعلق بتصورات الأشياء والتصديق بما ينبغي فعله أو لا ينبغي ، وسيجيء تفصيله في الكلام في إبليس وعمله.
قوله تعالى : « قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ » ( إلخ ) المذءوم من ذامه يذامه ويذيمه إذا عابه وذمه ، والمدحور من دحره إذا طرده ودفعه بهوان.