« إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ».
وليس ما ذكروه ببعيد وفي الآية بعض التأييد له حيث وصفت ما كانوا يفعلونه بالفحشاء وهي الأمر الشنيع الشديد القبح ثم ذكرت أنهم كانوا يعتذرون بأن الله أمرهم بذلك. ولازم ذلك أن يكون ما فعلوه أمرا شنيعا أتوا به في صفة العبادة والنسك كالطواف عاريا ، والآية مع ذلك الفحشاء فتصلح أن تنطبق على فعلهم ذلك ، وعلى مصاديق أخرى ما أكثر وجودها بين الناس وخاصة في زماننا الذي نعيش فيه.
قوله تعالى : « قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » لما نفت الآية السابقة أن يأمر الله سبحانه بالفحشاء وذكرت أن ذلك افتراء عليه وقول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي ما أوحى به الله بادرت هذه الآية إلى ذكر ما أمر به وهو لا محالة أمر يقابل ما استشنعته الآية السابقة وعدته فحشاء لما فيه من بلوغ القبح والإفراط والتفريط فقال : « قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ » إلخ.
والقسط على ما ذكره الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة قال : « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ » « وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ » والقسط هو أن يأخذ قسط غيره ، وذلك جور والإقساط أن يعطي قسط غيره ، وذلك إنصاف ولذلك قيل : قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل قال : « وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً » وقال : « وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » انتهى كلامه.
فالمراد : قل أمر ربي بالنصيب العدل ولزوم وسط الاعتدال في الأمور كلها وأن تجتنبوا جانبي الإفراط والتفريط فأقسطوا وأنيبوا وأقروا نفوسكم عند كل معبد تعبدون الله فيه وادعوه بإخلاص الدين له من غير أن تشركوا بعبادته صنما أو أحدا من آبائكم وكبرائكم بالتقليد لهم وهذا هو القسط في العبادة.
فقوله : « وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ » معطوف ظاهرا على مقول القول لأن معنى أمر ربي بالقسط : أقسطوا ، فيكون التقدير : أقسطوا وأقيموا ( إلخ ) ، والوجه هو ما يتوجه به إلى الشيء ، وهو في حال تمام النفس الإنسانية ، وإقامتها عندها إيجاد القيام بالأمر لها أي إيفاؤه والإتيان به كما ينبغي تاما غير ناقص فيئول معنى إقامة الوجه عند العبادة إلى الاشتغال بالعبادة والانقطاع عن غيرها