وأساس هذا البيان كما ترى ـ على قضيتين اثنتين : إحداهما : أن بين الفعل الاختياري وغيره فرقا ، وهي قضية عقلية ضرورية ، والثانية : أن الأفعال الاختيارية تتصف بحسن وقبح وتستتبع مدحا وذما وثوابا وعقابا ، وهي قضية عقلائية لا يسع لعاقل أن ينكرها وهو واقع تحت النظام الاجتماعي الحاكم عليه مدى حياته.
وبالجملة لا مجال للقول بالسعادة والشقاوة الذاتيتين بالمعنى المتقدم أبدا فما ورد من الآيات والروايات التي تعطف آخر الأمر على أوله إنما تسند الأمر إلى الخلق والإيجاد دون ذات الإنسان بما أنه إنسان ، وقد عرفت أن ارتباط السعادة والشقاء بأفعال الإنسان الاختيارية على ما تقتضيه القضيتان المتقدمتان مما لا يشوبه شك ولا يداخله ريب فما معنى هذه الآيات والروايات.
والروايات الواردة في مطابقة العود إلى البدء على كثرتها البالغة تختلف في مضامينها وأنحاء بيانها طبقا للآيات :
فمنها ما دل على ذلك إجمالا ، وأن الله خلقهم حين خلقهم صنفين : شقي وسعيد ، وكافر ومؤمن كرواية أبي الجارود المتقدمة ، وما مر في ذيل قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ » : آل عمران : ٦ ، من رواية الكافي ، في خلقة الجنين.
وهذا القسم من الروايات يحاذي قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ » : التغابن : ٢ ، وقوله : « هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى » : النجم : ٣٢ ، وقوله تعالى : « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ » الآية.
ولا إشكال كثير فيها فإن الآيات كما يشهد به سياقها ويدل عليه ذيل الأخيرة منها إنما تدل على قضاء إجمالي بكون النوع الإنساني مشتملا على فريقين ، وإنما يفصل الإجمال ، ويتعين كل من الطائفتين ، وتتميز من غيرها في مرحلة البقاء بأفعال اختيارية تستتبع سعادة أو شقاوة ، وتستدعي الاهتداء بالتوفيق أو أن يحق له الضلالة بولاية الشياطين ، وبعبارة أخرى الذي في بدء الخلقة قضاء مشروط ثم يخرج عن الاشتراط إلى الإطلاق بالأعمال الاختيارية بعد ذلك.