قوله تعالى : « قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا » ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها وهي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوؤها واستعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الإلهية التي هي غاية آمال المنقطعين إليه من أهل القنوت.
واشتراطها بقولها : « إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا » من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط وعليه الوصف للحكم ، والتقوى وصف جميل يشق على الإنسان أن ينفيه عن نفسه ويعترف بفقده فيئول المعنى إلى مثل قولنا : إني أعوذ وأعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيا ومن الواجب أن تكون تقيا فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي وتقصدني بسوء.
فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى : « وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » المائدة : ٥٧ ، وقوله : « وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » المائدة : ٢٣.
وربما احتمل في قوله : « إِنْ كُنْتَ » أن تكون إن نافية والمعنى ما كنت تقيا إذ هتكت على ستري ودخلت بغير إذني. وأول الوجهين أوفق بالسياق. والقول بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.
قوله تعالى : « قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا » جواب الروح لمريم وقد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى ، والزكي هو النامي نموا صالحا والنابت نباتا حسنا.
ومن لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا وأنه وهب له يحيى ، وذكر مريم وأنه وهب لها عيسى ، وذكر إبراهيم وأنه وهب له إسحاق ويعقوب ، وذكر موسى وأنه وهب له هارون عليهالسلام.
قوله تعالى : « قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا » مس البشر بقرينة مقابلته للبغي وهو الزنا كناية عن النكاح وهو في نفسه أعم ولذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله : « وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ » والاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد ولم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح ولا من طريق الحرام بالزنا.
والسياق يشهد أنها فهمت من قوله : « لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً » إلخ ، إنه سيهبه حالا