(فأجبت) جواب «لمّا» أي : كان ما تقدّم سبباً لإجابة (مطلوبه) وفي جَعل المجاب هو المطلوب ضرب من التعظيم للمجاب.
(وصنّفت هذا الكتاب) و «هذا» إشارة إلى المدوّن في الخارج ، ويناسبه قوله : «فأجبت وصنّفت» فتكون الديباجة بعد التصنيف ، أو إلى المرتّب الحاضر في الذهن.
والإتيان بصيغة الماضي ؛ تفؤّلاً بلفظه على أنّه من الأُمور الحاصلة التي من حقّها أن يخبر عنها بأفعال ماضية ، أو لإظهار الحرص على وقوعه ؛ لأنّ الإنسان إذا عظمت رغبته في شيء كثر تصوّره إيّاه ، فيورده بلفظ الماضي تخييلاً لحصوله. ومن هذا القبيل الدعاء بلفظ الماضي مع أنّه من قبيل الإنشاء ، كما هو مقرّر في المعاني.
والتحقيق أنّه إشارة إلى المرتب الحاضر في الذهن ، سواء كان وضع الديباجة قبل التصنيف أم بعده ؛ إذ لا حضور للألفاظ المرتّبة ولا لمعانيها في الخارج.
وتوضيح ذلك أنّ الكتاب المؤلّف لا يخلو إمّا أن يكون عبارةً عن الألفاظ المعيّنة أي العبارات التي من شأنها أن يلفظ بها الدالّة على المعاني المخصوصة ، وهو الظاهر ، وإمّا عن النقوش الدالّة عليها بتوسّط تلك الألفاظ ، وإمّا عن المعاني المخصوصة من حيث إنّها مدلولة لتلك العبارات أو النقوش ، فهذه ثلاثة احتمالات بسيطة وتتركّب منها ثلاثة أُخرى (١) ثنائيّة ، ورابع ثلاثي ، فالاحتمالات سبعة.
وأنت خبير بأنّه لا حضور في الخارج للألفاظ المرتّبة ولا لمعانيها ولا لما يتركّب منهما ولا لما يتركّب من النقوش معهما أو مع أحدهما ، وهذا كلّه واضح.
وأمّا النقوش الدالّة على الألفاظ فيحتمل أن يشار إليها بذلك. لكن فيه أنّ الحاضر من المنقوش لا يكون إلا شخصاً ، ولا ريب في أنّه ليس المراد تسمية ذلك الشخص باسم الكتاب ، بل تسمية نوعه ، وهو النقش الكتابي الدالّ على تلك الألفاظ المخصوصة بإزاء المعاني المخصوصة أعمّ من أن يكون ذلك الشخص أو غيره ممّا يشاركه في ذلك المفهوم ، ولا حضور لذلك الكلّي في الخارج ، فالإشارة إلى الحاضر المرتّب في الذهن أصوب على جميع التقديرات ، فكأنّه نزّل العبارات الذهنيّة التي أراد كتابتها منزلة الشخص المشاهد المحسوس ، فاستعمل لفظ «هذا» الموضوع لكلّ مشار إليه محسوس.
__________________
(١) في «ق ، م» : «احتمالات أخرى».