كل موضع جاء بمثله. فالخلاف في المسألة لفظي لأنه راجع إلى تفسير الإيمان وأنه في أيّ المعنيين منقول شرعي ، وفي أيهما مجاز ولا خلاف في المعنى فإنّ الإيمان المنجّي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين ، والإيمان المنجّي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السنة خلافا للمعتزلة والخوارج.
وبالجملة فالسلف والشافعي جعلوا العمل ركنا من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول ، وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول ، وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده ، وإن فات الثاني فاندفع الإشكال.
اعلم أنهم اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشاعرة أو جزء مفهومه عند غيرهم. فقيل هو من باب العلوم والمعارف فيكون عين التصديق المقابل للتصور. وردّ بأنّا نقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقيقة رسالته صلىاللهعليهوآلهوسلم وما جاء به قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١) و (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٢) الآية. وأجيب بأنّا إنما نحكم بكفرهم لأن من أنكر منهم الرسالة أبطل تصديقه القلبي بتكذيبه اللساني ، ومن لم ينكرها أبطله بترك الإقرار اختيارا ، لأنّ الإقرار شرط لإجراء الأحكام على رأي ، وركن الإيمان على رأي. ولهذا لو حصل التصديق لأحد ومات من ساعته فجأة قبل الإقرار يكون مؤمنا إجماعا. لكن بقي شيء آخر وهو أنّ الإيمان مكلّف به والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية فلا بد أن يكون التصديق بالقلب اختياريا ، والتصديق المقابل للتصوّر ليس اختياريا كما بيّن في موضعه.
وأجيب بأن التكليف بالإيمان تكليف بتحصيل أسبابه من القصد إلى النظر في آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته وتوجيه الحواس إليها ، وترتيب المقدمات المأخوذة ، وهذه أفعال اختيارية. ولذا قال القاضي الآمدي : التكليف بالإيمان تكليف بالنظر الموصل إليه وهو فعل اختياري. وفيه أنه يلزم على هذا اختصاص التصديق بأن يكون علما صادرا عن الدليل. وقيل هو أي التصديق من باب الكلام النفسي وعليه إمام الحرمين (٣). وهكذا ذكر صدر الشريعة حيث قال : المراد (٤)
بالتصديق معناه اللغوي وهو أن ينسب الصدق إلى المخبر اختيارا لأنه إن وقع في القلب صدق المخبر ضرورة كما إذا شاهد أحد المعجزة ووقع صدق دعوى النبوة في قلبه ضرورة وقهرا من غير أن ينسب الصدق إلى النبي عليهالسلام اختيارا ، لا يقال في اللغة إنه صدّقه ، فعلم أنّ المراد من التصديق إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر اختيارا الذي هو كلام النفس ويسمّى عقد الإيمان. وظاهر كلام الأشعري أنه كلام النفس والمعرفة شرط فيه إذ المراد بكلام النفس الاستسلام الباطني والانقياد لقبول الأوامر والنواهي. وبالمعرفة إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع أي تجليها للقلب وانكشافها له وذلك الاستسلام إنّما يحصل بعد حصول هذه المعرفة ، ويحتمل أن يكون كل منهما ركنا.
__________________
(١) البقرة / ٨٩.
(٢) البقرة / ١٤٦.
(٣) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني ، أبو المعالي ، ركن الدين الملقب بإمام الحرمين. ولد بنواحي نيسابور عام ٤١٩ هـ / ١٠٢٨ م وتوفي فيها عام ٤٧٨ هـ / ١٠٨٥ م. فقيه شافعي ، متكلم أشعري. له الكثير من المؤلفات الهامة. الأعلام ٤ / ١٦٠ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٨٧ ، طبقات السبكي ٣ / ٢٤٩ ، مفتاح السعادة ١ / ٤٤٠ ؛ تبيين كذب المفتري ٢٧٨.
(٤) المقصود (م ، ع).