في الحرام فواجب عام أي في حقّ العارفين والمقربين وغيرهم وفي المشتبه فمندوب عام. وقيل واجب. قال إبراهيم بن أدهم (١) : الزهد فرض في الحرام وفضل في ترك الحلال إن كان أزيد مما لا بدّ منه ومكرمة في ترك الشّبهات ، فإنّ ترك الشّبهات سبب للكرامة. وقد قسّم كثير من السلف الزهد إلى ثلاثة أقسام : زهد فرض وهو اتقاء الشّرك الأكبر ثم اتقاء الأصغر وهو أن يراد بشيء من العمل قولا أو فعلا غير الله تعالى وهو المسمّى بالرّياء في الفعل وبالسّمعة في القول ، ثم اتقاء جميع المعاصي ، وهذا الزهد في الحرام فقط. وقيل يسمّى هذا المزهد (٢) زاهدا وعليه الزهري (٣) وابن عيينة (٤) وغيرهما. وقيل لا يسمّى زاهدا إلاّ إن ضمّ ذلك الزهد بنوعيه الآخرين وسواهما ترك الشّبهات رأسا وفضول الحلال. ومن ثمّ قال بعضهم لا زهد اليوم لفقد المباح المحض. وقد جمع أبو سليمان الداراني أنواع الزهد كلها في كلمة فقال : هو ترك ما شغلك عن الله عزوجل. وقيل : قال العلماء الزهد قسمان : زهد مقدور وهو ترك طلب ما ليس عنده وإزالة ما عنده من الأشياء ، وترك الطلب في الباطن. وزهد غير مقدور وهو ترك أن يبرد قلبه من الدنيا بالكلية فلا يحبّها أصلا. وإذا حصل للعبد القسم الأول يحصل الثاني أيضا بفضله تعالى وكرمه. وقيل الزهد ترك الحلال من الدنيا والإعراض عنها وعن شهواتها بترك طلبها ، فإنّ طالب الشيء مع الشيء. وقال الجنيد : الزهد خلوّ الأيدي من الأملاك والقلوب من التتبع أي الطلب. وقال السرّي الزهد ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا أي لا يفرح بشيء منها ولا يحزن على فقده ولا يأخذ منها إلاّ ما يعينه على طاعة ربه أو ما أمر في أخذه مع دوام الذكر والمراقبة والتفكر في الآخرة ، وهذا أرفع أحوال الزهد ، إذ من وصل إليه إنّما هو في الدنيا بشخصه فقط. وأمّا بمعناه فهو مع الله بالمراقبة والمشاهدة لا ينفكّ عنه. وقيل الزاهد الذي شغل نفسه بما أمره مولاه وترك شغله عن كل ما سواه. وقيل من يخلو قلبه عن المراد (٥) كما يخلو يداه من الأسباب. وقيل هو من لا يأخذ من الدنيا إلاّ قوتا. وجميع الأقوال متقاربة كما لا يخفى.
اعلم أنّ العلماء اختلفوا في تفسير المزهود فيه من الدنيا ، فقيل : الدينار والدرهم. وقيل المطعم والمشرب والملبس والمسكن ، وقيل الحياة. والوجه كما علم مما سبق أنّه كل لذّة وشهوة ملائمة للنفس حتى الكلام بين مستمعين له ما لم يقصد به وجه الله تعالى. وفي حديث مرفوع أخرجه الترمذي وقال غريب وفي إسناده من هو منكر الحديث وابن ماجة : «الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا
__________________
(١) هو ابراهيم بن ادهم بن منصور التميمي البلخي ، أبو إسحاق. توفي عام ١٦١ هـ / ٧٧٨ م. زاهد مشهور عالم. له أخبار كثيرة. الاعلام ١ / ٣١ ، تهذيب ابن عساكر ٢ / ١٦٧ ، البداية والنهاية ١٠ / ١٣٥ ، حلية الأولياء ٧ / ٣٦٧.
(٢) يسمّى صاحب هذا الزهد (م).
(٣) هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري القرشي ، أبو بكر. ولد عام ٥٨ هـ / ٦٧٨ م. وتوفي عام ١٢٤ هـ / ٧٤٢ م. أول من دوّن الحديث ، من أكابر الحفّاظ والفقهاء ، تابعي. الاعلام ٧ / ٩٧ ، تذكرة الحفاظ ١ / ١٠٢ ، وفيات الاعيان ١ / ٤٥١ ، تهذيب التهذيب ٩ / ٤٤٥ ، حلية الأولياء ٣ / ٣٦٠ ، صفة الصفوة ٢ / ٧٧.
(٤) هو سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي ، أبو محمد. ولد بالكوفة عام ١٠٧ هـ / ٧٢٥ م. وتوفي بمكة عام ١٩٨ هـ / ٨١٤ م. محدّث الحرم المكي. حافظ ثقة ، واسع العلم. له عدة كتب. الاعلام ٣ / ١٠٥ ، تذكرة الحفاظ ١ / ٢٤٢ ، صفة الصفوة ٢ / ١٣٠ ، وفيات الأعيان ١ / ٢١٠ ، حلية الأولياء ٧ / ٢٧٠.
(٥) المقصود (م ، ع).