إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها ، واضرب ثلث بلادها وابعث إليّ بثلث سباياها ، فلمّا دخلها ناوش شيئا من قتال فتفرّقوا عن ذي نواس وخرج به فرسه ، فاستعرض به البحر فضربه فهلكا جميعا فكان آخر العهد ، ودخلها أرياط فعمل بما أمر به النجاشي ، فقال ذو حدر الحميري فيما أصاب أهل اليمن وترابهم :
وعيني لا أبا لك لم تطيقي |
|
نجاك الله قد أنزفت ريقي |
لدى عزف القيان إذ انتشينا |
|
وإذ نسقى من الخمر الرحيق |
وشرب الخمر ليس عليّ [عارا] |
|
إذا لم يشكني فيها رفيقي |
وغمدان الذي حدثت عنه |
|
بنوه ممسكا في رأس نيق |
مصابيح السليط تلوح فيه |
|
إذا يمسي كتوماض البروق |
فأصبح بعد جدّته رمادا |
|
وغيّر حسنه لهب الحريق |
واسلم ذو نواس مستميتا |
|
وحذّر قومه ضنك المضيق (١) |
قال : فأقام أرياط باليمن ، وكتب إليه النجاشي : أن اثبت بجندك ومن معك ، فأقام حينا ثم إنّ أبرهة بن الصباح ساخطة في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين فكانت معه طائفة ومع أبرهة طائفة ، ثم تراجفا ، فلمّا دنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط : لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها بعضا شيئا حتى تلقاني ، ولكن اخرج إليّ فأيّنا قتل صاحبه انضمّ إليه الجند ، فأرسل إليه : إنّك قد أنصفت.
وكان أرياط جسيما عظيما وسيما ، في يده حربته ، وكان أبرهة رجلا قصيرا حاذرا لحيما ، وكان ذا دين في النصرانيّة وخلّف إبراهة [فيها غلام] يقال له : عتودة ، فلمّا دنوا رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس أبرهة فوقعت على جبينه فشرمت عينه وجبينه وأنفه وشفته فبذلك سمّي الأشرم.
وحمل عتودة على أرياط فقتله ، فاجتمعت الحبشة لأبرهة وقال عتودة : أنا عتودة من خلفه أرده لا أب ولا أم بحده ، وقال أبرهة : ما كان لك قبله يا عتودة ولا ديته قال : فبلغ النجاشي ما صنع أبرهة فغضب وحلف لا يدع أبرهة حتى يجرّ ناصيته ويطأ بلاده ، وكتب إلى أبرهة : إنّك عدوت على أميري فقتلته بغير أمري.
وكان أبرهة رجلا ماردا ، فلمّا بلغه ما كان من قول النجاشي حلق رأسه وملأ جرابا من تراب أرضه وكتب إلى النجاشي : أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك ، اختلفنا في أمرك وكنت أعلم بالحبشة وأسوس لها ، وقد كنت أردته أن يعتزل وأكون أنا أسوسه فأبى فقتلته ، وقد بلغني الذي حلف عليه الملك ، وقد حلقت رأسي فبعثت به إليه ، وبعثت إليه بجراب من تراب
__________________
(١) الأبيات بتمامها في تفسير الطبري : ١ / ٥٤٧.