وهو أن الله تعالى لا يمتنع ان يكون امره بكتمان امره والصبر على مشقة العبودية امتحانا وتشديدا في التكليف ، كما امتحن ابويه ابراهيم واسحق عليهما السلام ، أحدهما بنمرود والآخر بالذبح. ووجه آخر : وهو انه يجوز ان يكون قد خبرهم بأنه غير عبد ، وأنكر عليهم ما فعلوا من استرقاقه ، الا أنهم لم يسمعوا منه ولا اصغوا إلى قوله ، وإن لم ينقل ذلك. فليس كل ما جرى في تلك الازمان قد اتصل بنا. ووجه آخر : وهو أن قوما قالوا انه خاف القتل ، فكتم أمر نبوته وصبر على العبودية. وهذا جواب فاسد لان النبي (ع) لا يجوز ان يكتم ما ارسل به خوفا من القتل ، لانه يعلم ان الله تعالى لم يبعثه للاداء إلا وهو عاصم له من القتل حتى يقع الاداء وتسمع الدعوة ، وإلا لكان ذلك نقضا للغرض. (مسألة) : فإن قيل : فما تأويل قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز (ولقد همت به وهم بها لولا ان رآى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين). (الجواب) : ان الهم في اللغة ينقسم إلى وجوه : منها العزم على الفعل كقوله تعالى : (إذ هم قوم ان يبسطوا اليكم ايديهم فكف ايديهم عنكم) اي ارادوا ذلك وعزموا عليه. قال الشاعر : هممت ولم افعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله ومثله قول الخنساء : وفضل مرداسا على الناس حلمه * وان كل هم همه فهو فاعله ومثله قول حاتم الطائي : ولله صلعوك يساور همه * ويمضي على الايام والدهر مقدما ومن وجوه الهم ، خطور الشئ بالبال وان لم يقع العزم عليه. قال الله تعالى : (إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما) وانما اراد تعالى ان الفشل خطر ببالهم ، ولو كان الهم في هذا المكان عزما ، لما كان الله تعالى ولا هما لانه تعالى يقول : (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) وارادة المعصية ، والعزم عليها معصية. وقد تجاوز ذلك قوم حتى قالوا ان العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الصغيرة صغيرة وعلى الكفر كفر. ولا يجوز ان يكون الله تعالى ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وآله واسلامه إلى السوء ، ومما يشهد ايضا بذلك قول كعب بن زهير : فكم فيهم من سيد متوسع * ومن فاعل للخير ان هم أو عزم ففرق كما ترى بين الهم والعزم. وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعنى. ومن وجوه الهم ان يستعمل بمعنى المقاربة ، فيقولون هم بكذا وكذا اي كاد ان يفعله. قال ذو الرمة : أقول لمسعود