وقلوبهم أشد قسوة منها ، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو : زيد كريم وعمر أكرم. وكلمة «أو» هاهنا ليست للشك ، فعلام الغيوب لا يشك في شيء ، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقا ، ولو جمعت بينهما جاز. ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير ، وإن منها للذي ينشق انشقاقا طولا أو عرضا فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها ، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض. ثم إن كان ظاهر الأرض رخوا نفشت وانفصلت ، وإن كان صلبا حجريا اجتمعت وصارت مياها ، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهارا أو عيونا. وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل. ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم «يذكر» في «يتذكر» (لَما يَهْبِطُ) للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله ، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر ، وقيل : أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد ، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم : ٨٤] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥].
التأويل : ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية ، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا.
اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي وحياتي في مماتي ومماتي في حياتي مت بالإرادة تحيا بالطبيعة. وقال بعضهم : مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة (ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) نفس تصلح للذبح بسيف الصدق (لا فارِضٌ) في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد (وَلا بِكْرٌ) في سن شرخ الشباب يستهويه سكره (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) لقوله (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف : ١٥]. (بَقَرَةٌ صَفْراءُ) إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات (فاقِعٌ لَوْنُها) يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين. (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها (وَلا تَسْقِي)