جبانا لم يجد بطائل. ثم إن الشجاع مع ذلك يحتاج إلى الآلات والعدد والاتفاقات الحسنة حتى يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار ، فاقترحوها بقولهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) ثم إنه مع كل هذه الأشياء يفتقر إلى أن تزيد قوته على قوة عدوه حتى يغلبهم وهو المراد بقولهم (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فلا جرم استجاب الله دعاءهم (فَهَزَمُوهُمْ) كسروهم (بِإِذْنِ اللهِ) بتوفيقه وإعانته (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) عن ابن عباس أن داود كان راعيا ومعه سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود ـ وكان صغيرا ـ إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف ، وبرز جالوت الجبار وكان من قوم عاد وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل من الحديد ، فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل ، لو كنتم على الحق لبارزني بعضكم. فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوه. فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرّض الناس فقال له داود : ما تصنعون لمن يقتل هذا؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف مملكتي. فقال داود : فأنا خارج إليه. وكانت عادته أنه يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى وكان طالوت عارفا جلادته فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت مر بثلاثة أحجار فقلن : يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت. ثم لما خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناسا كثيرا. قيل : فحسده طالوت ولم يف له وعده ثم ندم على صنيعه فذهب يطلبه إلى أن قتل. (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوّة لأن الحكمة وضع الأمور موضعها على الوجه الأصوب والنحو الأصلح. وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، والمشهور من أحوال بني إسرائيل ، أن الله تعالى كان يبعث إليهم نبيا وعليهم ملكا كان ذلك الملك ينفذ أمور ذلك النبي ، وكان نبي ذلك الزمان أشمويل وملكه طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله دود النبوّة ، ولما توفي طالوت أعطى الله الملك إياه أيضا ، ولم يجتمع الملك والنبوّة على أحد من بني إسرائيل قبله. ويروى أن بين قتله جالوت وبين ما أعطاه الله الملك والحكمة سبع سنين. قال بعضهم : هذا الإتيان جبرا له على ما فعل من الطاعة وبذل النفس في سبيل الله ، ولا ممتنع في جعل النبوّة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] وقال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ولهذا ذكر بعده حديث الهزيمة والقتل. وترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لا سيما وقد نطقت الأحجار معه ، وقد قهر العدو العظيم المهيب بالآلة الحقيرة. وقال آخرون : إن النبوّة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)