لطالوت الروح الإنساني تابوت القلب الرباني سلم له ملك الخلافة ، وانقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلا يركن إلى الدنيا ويتجهز لقتال جالوت النفس الأمارة (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) هو نهر الدنيا وما زين للخلق فيها (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) [آل عمران : ١٤] ليظهر المحسن من المسيء ويميز الخبيث من الطيب (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) قنع من متاع الدنيا بما لا بد له منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار ، وكان نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم يقول : «اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا» أي ما يمسك رمقهم (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لأن من شرب من نهر الدنيا ماء شهواتها ولذاتها وتجاوز عن حد الضرورة فيها لا يطيق قتال جالوت النفس وجنود صفاتها وعسكر هواها ، لأنه صار معلولا مريض القلب فبقي على شط نهر الدنيا (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧] (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فيه إشارة إلى أن المجاهد في الجهاد الأكبر لا يقوم بحوله وقوته لقتال النفس إلا إذا رجع إلى ربه مستعينا به مستغنيا عن غيره قائلا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى والإعراض عن زينة الدنيا (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) على التسليم في الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام القضاء في السراء والضراء (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وهم أعداؤنا في الدين عموما ، والنفس الأمارة وصفاتها التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصا (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) بنصرته وقوته (وَقَتَلَ داوُدُ) القلب (جالُوتَ) النفس إلخ. وأخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صار الثلاثة حجرا واحدا وهو الالتفات إلى غير المولى ، فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فرمى به جالوت النفس ، فسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها ، وخالط دماغها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من ورائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها ، وهزم الله باقي جيشها وهي الشياطين وأحزابها ، وآتاه الله ملك الخلافة وحكمه الإلهامات الربانية ، وعلمه مما يشاء من حقائق القرآن وإشاراته (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) يعني أرباب الطلب بالمشايخ البالغين الواصلين الهادين المهتدين كما قال (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن التقويم عن استيلاء جالوت النفس بتبديل أخلاقها وتكدير صفائها (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) فمن كمال فضله ورحمته حرك سلسلة طلب الطالبين وألهم أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين ، ووفقهم للتمسك بذيول تربيتهم ووقفهم على التشبث بأهداب سيرهم ، وثبتهم على الرياضات في حال تزكيتهم كما قال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النور : ٢١].