ذكر حال من أكره أتبعه حال من هاجر من بعد ما فتن. قال جار الله : معنى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه. ومعنى (إِنَّ رَبَّكَ) لهم أنه لهم لا عليهم فينصرهم ولا يخذلهم. ويحتمل أن يكون الجار متعلقا بالخبر على نية التأخير. وتكرير «إن» لطول الكلام.
من قرأ (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) بفتح الفاء مبنيا للفاعل فوجهه أن فتن وافتتن بمعنى واحد والمراد أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد ، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم ، ومعنى «ثم» على هذا التفسير ظاهر. ومن قرأ بضم الفاء مبنيا للمفعول فالمراد أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر. وقال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا فنزلت الآية فيهم. فمعنى «ثم» تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا. وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه. وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية ، ومثله ما روي عن قتادة أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ، فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية. والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِها) يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر. فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد ، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية فبين تعالى أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك ، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به فوعده الله المغفرة والرحمة. قال الزجاج (يَوْمَ تَأْتِي) منصوب بقوله : (رَحِيمٌ) أو بإضمار «اذكر» أو «ذكرهم وأنذرهم» ومعنى الآية ظاهر إلا أن في قوله : (عَنْ نَفْسِها) إشكالا من حيث إضافته النفس إلى ضمير النفس. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الحي ، وبالنفس الثانية الذات