الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين ، فسلط الله عليهم بختنصر أو سنجاريب وجنوده أو جالوت. عن ابن عباس : قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وسبوا منهم سبعين ألفا وبقوا في الذل إلى أن قيض الله ملكا آخر من أهل بابل وتزوج بامرأة من بني إسرائيل وطلبت من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم. الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه ، ثم أقدموا على قتل زكريا ويحيى عليهماالسلام وقصدوا قتل عيسى ابن مريم عليهالسلام ، وهذا ثاني الإفسادين فانتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك. وقال صاحب الكشاف : المرة الأولى قتل زكريا وحبس أرميا ، والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام ، والمقصود الأصلي الذي دل عليه القرآن هو أنهم كلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم. وفيه تحذير للعقلاء من محالفة أوامر الله ونواهيه ، ثم قال : (عَسى رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد لتقامه منكم في المرة الثانية (وَإِنْ عُدْتُمْ) للثالثة (عُدْنا) لها. قال أهل السير : ثم إنهم قد عادوا إلى فعل مالا ينبغي. وهو تكذيب محمد وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل. فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والإجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا حشمة لهم ولا عزة فيهم إلى يوم القيامة ، وأما بعد ذلك فهو قوله (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محبسا حاصرا ومحصورا لا يتخلصون منه أبدا. وعن الحسن : بساطا كما يبسط الحصير المنسوج.
ثم لما شرح فعله في حق عباده المخلصين كمحمد صلىاللهعليهوسلم وموسى عليهالسلام وفي حق عبيده العاصين كأكثر بني إسرائيل ، وكان في ذلك تنبيه على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته تقتضي كل شر وغرامة ، عظم شأن القرآن المبين للأحكام الهادي للأنام فقال : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي) أي للحالة أو الشريعة أو الطريقة التي (هِيَ أَقْوَمُ) وفي حذف الموصوف فخلفه بعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار وذهاب الوهم كل مذهب. قيل : هذا الشيء أقوم من ذلك. إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم يكون للأول على الآخر. وكيف يتصور في غير هذا الدين شيء من الاستقامة حتى يستقيم هذا التفضيل؟ وأجيب بأن «أفعل» هاهنا بمعنى الفاعل كقولنا «الله أكبر» هو الكبير. وكقولهم «الناقص والأشج أعدلا بني مروان» أي عادلا بني مروان. ويمكن أن يقال : لا شيء من الأديان إلا وفيه نوع من الاستقامة كالاعتراف بالله الواجب