هذه الأحوال (يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا) ويزيلوا ويبطلوا (بِهِ الْحَقَ) من إدحاض القدم وهو إزلاقها (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا) أي الذي أنذروا من العقاب أو إنذارهم (هُزُواً) موضع استهزاء. قال جار الله : جدالهم قولهم للرسل (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس : ١٥] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤] وما أشبه ذلك. قال أهل العرفان : قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي بالقرآن بدليل قوله : (أَنْ يَفْقَهُوهُ) وبتذكير الضمير. (فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الكفر والمعاصي فلم يتفكروا في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية. وإنما قال في السجدة (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [الآية : ٢٢] لأن ما في هذه السورة في الكفار الأحياء الذين إيمانهم متوقع بعد ، أي ذكروا فأعرضوا عقب ذلك. وما في السجدة في الكفار الأموات بدليل قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزمانا بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم. وقوله (إِنَّا جَعَلْنا) وقد مر تفسيره في «الأنعام» إلى قوله : (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلا لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله ، ولعله أراد بذلك إظهار مغفرته ورحمته على عباده كما قال : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) قال المفسرون الضمير في قوله : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) لأهل مكة الذين أفرطوا في عداوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. والموعد يوم بدر. وأقول : لا يبعد أن يكون الضمير للناس في قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ) والموعد القيامة ، والموئل الملجأ يقال وأل إذا نجا ، ووأل إليه إذا لجأ إليه. قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار ، والرحمة إيصال النفع ، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول ، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال. أقول : هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضا لا يخلو عن مبالغة ، وكثيرا ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين. وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي أيضا نظر ، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك. ثم أشار إلى قرى الأولين اعتبارا لغيرهم فقال : (وَتِلْكَ الْقُرى) فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم ، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى (أَهْلَكْناهُمْ) ويجوز أن يكون (تِلْكَ الْقُرى) منصوبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. (وَجَعَلْنا) لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكهم (مَوْعِداً) وعدا أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا