ذلك ، إن هذا الحيوان الضعيف الذي لا قدرة لهم على خلقه لو سلب منهم شيئا لم يقدروا أيضا على استخلاص ذلك الشيء منه. عن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وقيل : سمي الذباب ذبابا لأنه كلما ذب آب. ثم عجب من ضعف الأصنام والذباب بقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه. وقيل : الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم أو عبادته ، ويجوز أن يكون الطالب هو السالب والمطلوب المسلوب منه.
ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في «الأنعام». (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) قادر غالب فكيف يسوّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم. وذلك أنهم لو اعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى ، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل. وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوّات وهي أن الرسول لا يكون بشرا فقال (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل. هاهنا سؤالان : الأول أن «من» للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضا لقوله (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية ، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى بني آدم وهم أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلا إلى بعض آخر منهم. وثانيهما أنه قال في موضع آخر (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [الزمر : ٤] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولدا. والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولكن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا ، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر ، وأن